الاثنين، مارس 12

الحياة في ظل عولمة الفاشية


 
بقلم: د. المهدي المنجرة (*)

لا يمكن الحديث عن انتهاء الحرب بالعراق، إنها بالأحري حرب بدأت منذ عقود ولم تنته بعد، لقد سميت ما يقع بعد انهزام الاتحاد السوفياتي ودخولنا في حقبة القوة الوحيدة ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب الحضارية، إنها حرب ضد كل ما هو عربي مسلم، وإذا شئنا فهي ضد كل ما هو غير يهودي مسيحي.

 
فالحرب علي العراق لا يمكن أن تدخل إلا ضمن مسلسل بدأ منذ بداية تسعينات القرن الماضي مع نهاية المعسكر الشيوعي ولا يزال مستمرا، وسيستمر علي الأقل لمدة 15 إلي 20 سنة. بالتالي، فمن حيث المقاصد فإن ما حدث يوم 11 ايلول (سبتمبر) لا يغير شيئا في المسلسل المذكور، حيث كانت كل الأشياء مهيأة ووفق عدة سيناريوهات، والقصد الأساسي هو كيف سيمكن للولايات المتحدة أن تسيطر علي العالم بأسره، وأحسن طريقة في سبيل ذلك هي أن تدخل الولايات المتحدة إلي منطقة عربية مسلمة استراتيجية من الناحية الجغرافية ولديها الموارد الطبيعية الغنية مثل النفط، غير أن هذا ليس سوي محطة ضمن مسار أوسع.

 
إننا بإزاء ما أسميه الميغا إمبريالية ، ذلك أنه علي عكس التعريف الكلاسيكي للإمبريالية مع الرومان ثم المرحلة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، إذ كانت الإمبريالية توسعا استعماريا للاستيلاء علي مناطق لأسباب اقتصادية، وبالأخص المواد الخام، وسوق ترويج ويد عاملة رخيصة، وهذا كان ضمن ما سمي بالثورة الصناعية، أما الآن، فإن المرحلة الصناعية انتهت وأصبحنا نعيش في عالم ما بعد هذه المرحلة، وهو المجتمع المعرفي.

 
إن الفرق ما بين الإمبريالية الكلاسيكية والميغا إمبريالية هو أن هذه الأخيرة لا تحتاج للجغرافيا، حيث لديها وسائل جديدة مثل التكنولوجيا المتطورة للسيطرة علي العالم بأسره عبر تقنيات المراقبة، وبالتالي فإن هذه الوسائل أصبحت تغني عن الوجود في عين المكان، فثمة أقمار صناعية تنقل كل تفاصيل ما يجري في شتي مناطق العالم، وهو ما يكفل التحكم عن بعد. ثم أن المعلومات لم تعد محصورة في الاستخدام العلمي، بل إن الولايات المتحدة حولت العالم في السنين الأخيرة بكل وقاحة إلي عالم استخباري، حيث إن هناك شطرا من الميزانية الفيدرالية للولايات المتحدة بالخصوص تبلغ نحو مليار ونصف مليار دولار لشراء الصحافيين والكتاب بغرض توظيفهم للأعمال الاستخباراتية.

 
لقد أصبح للميغا إمبريالية أسلوب جديد ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار فهي لا تقبل إمبريالية أخري منافسة علي عكس ما كان في السابق، حيث كانت الإمبريالية الفرنسية مثلا تقبل بوجود إمبرياليات أخري ألمانية وبريطانية وإسبانية أو غيرها.


 
العالم يتطور بسرعة أكبر بكثير مما يمكن أن يتوقعه المرء، وجوهر التخلف هو عدم التوقع ، وغياب الرؤية علي المدي الطويل، والمسؤولون في العالم الثالث الذين يعتبرون التخلف بعينه لا يفكرون سوي في الأربعة وعشرين ساعة المقبلة، مهووسون بسؤال واحد، هل سيبقون في الحكم أم لا؟ أما الدول المتقدمة فتتوفر علي المسؤولين الذين يفكرون في الانتخابات المقبلة التي ستكون بعد شهرين أو سنوات، وهناك أجهزة وشبكات معروفة متمثلة في جامعات ومعاهد للبحث المختصة بالتفكير علي المدي الطويل، أما نحن فلا نملك من ذلك شيئا، وكم صعقت حينما جاء أحد سفراء الولايات المتحدة الأمريكية سابقا بالمغرب بكل وقاحة بوثيقة ليتحدث عن المغرب بعد عشرين سنة أمام الصحافيين، ومعني ذلك أن ماضينا وحاضرنا وبل وحتي مستقبلنا ليس بأيدينا.

 
إن أهمية التوقع لا تخفي علي أحد، فما رأيناه في العراق أخيرا كان مخططا له منذ أمد طويل فقد كان ما بين 400 ألف و500 ألف شخص موجودين في المنطقة ناهيك عن الأقمار الاصطناعية والأطباء والمخابرات بكل أنواعها، ليس في العراق فحسب، بل في مختلف أنحاء العالم لسبر أغوار ما يقع وله علاقة بالمعركة التي كان يتم الإعداد لها ضد العراق فضلا عن بنك معطيات لا يمكن تصورها، شاركت فيها أجهزة المخابرات العربية، حيث تساهم هذه الأخيرة بأهم المعطيات عن المنطقة، وهذا لم يحصل في التاريخ من قبل.

 
إن الدعاية الأمريكية تركز علي الأشخاص، ففي حالة العراق تم اختزال كل شيء في صدام، مع تجاهل أن في العراق أمة عريقة، وأن 90 بالمائة مما رأيناه عن العراق هو كذب وبهتان، فالإنسان العراقي مهذب ولا يمكنه أن يقترف مثل تلك الأشياء. لقد جاء الأمريكان بأشخاص من مناطق أخري ليقوموا بما قاموا به.

 
إنها الحرب النفسية التي عقبت الحرب العسكرية لتكون الهزيمة شاملة. الحرب لم تنته بعد.. فالبرغم مما حصل فإن الشعب العراقي سينهض، ويجب أن نستحضر هنا ما حصل في اليابان وألمانيا عقب الهزيمة، والبشاعات التي حدثت، لكن ماذا طلع من تلك البشاعات فيما بعد؟ لقد حقق البلدان أعلي مستويات التقدم الصناعي.

 
إن أمريكا لا تاريخ لها يذكر، فوجودها لا يتعدي 300 سنة والجزء الأكبر من تاريخها القصير أتاها من أوروبا، ويجب ألا ننسي أن الولايات المتحدة الأمريكية محت من قبل حضارة 20 مليون هندي محلي في حرب إبادة، عقب اجتثاتها لما بين ثلاثة وأربعة ملايين شخص من إفريقيا، وأنا أقول إن أمة بلا تاريخ لا تستطيع امتلاك نفسها أمام حضارات لها ستة أو سبعة آلاف سنة، لذلك فهي تحاول قتل ذاكرة تلك الحضارات، لأنه عندما يتم القضاء علي تلك الذاكرات يعتقد المغلوب أنه انهزم.
إن هناك كتابا قديما مهما لأحد الأمريكيين يدعي تورنر قال فيه إنه لا يمكن فهم الولايات المتحدة الأمريكية إذا لم تستوعب مسألة الحدود لأن الأمريكيين جاءوا في جلهم من أوروبا، والأرض الأمريكية بالنسبة إليهم ليست سوي محطة في مسيرة طويلة لتخطي الحدود والهيمنة علي العالم، حيث عقب استيلائهم علي العالم الجديد، ذهبوا إلي ما وراء المحيط الهادئ وقالوا بعد ذلك إن هذا لا يكفي.

 
مقابل ذلك، فإن ما وقع بالعراق يشي ببداية نهاية الإمبراطورية الأمريكية، لأن الذي ضاع من الإنسانية الآن هو القانون أي الجانب الشرعي، ولم يعد هناك من مرجعية في هذا الصدد سواء في البلدان أو المؤسسات الدولية، وهو ما يخلق فوضي خطيرة. فالمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة أواليونسكو لم يكن بمقدورهما منع دخول الجيش إلي المستشفيات وتدمير أهم المآثر في تاريخ الإنسانية، لقد كان المقصود أن يري الناس الفوضي والتدمير والدوس علي الذاكرة. لقد قضيت 30 سنة من عمري في الأمم المتحدة وكتبت كتابا قلت فيه بنهايتها لأنه لم تعد لها مصداقية، وعندما جاءت حرب الخليج الأولي وما تلاها قلت بأن ديكولار قتل الأمم المتحدة وبطرس غالي كفنها أما كوفي عنان فدفنها.

 
من ناحية ثانية يجب أن نؤكد علي وجود علاقة عضوية بين قضية العراق والقضية الفلسطينية، فأمريكا تدافع عن مبدأ واحد مفاده أنه لا يمكن لأي أحد أن يمس بإسرائيل، كما لا يمكن لأي كان أن يصل لمستوي تكنولوجي يخول له الإضرار بإسرائيل.
إن الأساس ليس هو ماذا يفعلون، بل ماذا نفعل نحن... حيث نجد أن العرب أنفسهم خانوا فلسطين، وعلي رأس الخائنين حسني مبارك وعرفات، وتتمثل خيانة الخيانات في تكوين ما يسمي بالحكومة الفلسطينية واعتبار بوش لاختيار أبو مازن بأنه اختيار ممتاز.

 
إننا بإزاء هزيمة منظور برمته والذي عمر لعقود طويلة. فالدول العربية والإسلامية بأنظمتها السياسية وبمثقفيها وبكل مكوناتها المجتمعية هي نموذج فاشل، والأسباب تتمثل أساسا في التخلف، إذ لم نستطع في ظرف خمسين سنة أن نتقدم في محو الأمية، ولم نعرف ما هي الديمقراطية لا من بعيد ولا من قريب، ولم نعرف الحرية العامة واحترامها ولا دور الابتكار ودور العالم والمبدع إذا لم يكن في خدمة نظام سياسي معين.. إننا نؤدي الآن ثمن هذا التخلف.. وما نعيشه الآن من هزائم ليست سوي البداية، ولذلك لا يمكن قبول سؤال ماذا بعد الحرب؟ البداية هي أن تتحرك الشعوب وتنتفض ضد الذل. وأتذكر أنه بعد صدور كتابي حول الذلقراطية اعتبر البعض ذلك مبالغة ، واليوم فإن المصطلح يعبر العالم والجميع يتحدث عن الذل المعمر، لذا فما بعد الحرب هو البداية.

 
إن لبغداد تجارب وتاريخا عظيما في القرن التاسع وبعد القرن العاشر، مع دخول المغول.. الذين حطموا بغداد وكان عدد القتلي مليون شخص، ومع ذلك انطلقت فيما بعد. إننا لا نخشي علي الشعوب التي لها ماض وكرامة ومقاصد ومفهوم حضاري. ليس ثمة شك أن الذي جري شيء مؤلم ، غير أن الاحتلال لن يتجاوز خمس سنوات لأن الاحتلال هو بداية الحرب، وأمامنا النموذج الصهيوني في فلسطين.

 
إنه لمدعاة صدمة حقيقي أن يسمع المرء في هذه الظروف وزيرا مغربيا يقول ما معناه إن منطقة البحر الأبيض المتوسط خسرت الكثير من السياح بسبب حرب الخليج ومن المجحف أن نقرأ ونسمع بأن السفارة الأمريكية تعطي منحا لدراسة الديمقراطية في هذا الوقت بالذات.

 
إن أضعف الأيمان أن يحترم الإنسان نفسه ويرفض الذل، لقد كان مطلوبا كحد أدني أن تقوم الدول العربية باستدعاء سفرائها في واشنطن للتشاور، ولو لذر الرماد في العيون. لقد دفعت الدول العربية لحد الآن 600 ملياردولار في الأسلحة ...أين هي هذه الأسلحة؟

 
إن الأجيال المقبلة ستحاكم المسؤولين السياسيين ومسؤولي جامعة الصهيونية العربية، وما يسمي بالمؤتمر الإسلامي... لقد رأينا مصر الدولة العربية الكبري التي هي الأساس كيف تصرفت.. مصر مبارك والسادات والدور الخطير الذي لعبته منذ كامب ديفيد إلي الآن، انظر إلي الصحف مثل الأهرام والصحافيين والمخابرات. مع ذلك يبقي الأمل لأن هناك الشعب المصري العريق الذي يدافع عن شرفه وكرامته وقوميته.

 
إننا أصبحنا نعيش في ظل عولمة للفاشية تشبه النازية علي المستويات القطرية لكنها أضحت تتسع لكل بقاع الأرض.
وقصدي من هذا إنما القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما لن تقبل أبدا بنظام ديمقراطي في أي بلد من بلدان العالم الثالث، لأنها محتاجة إلي بلدان تسير بطريقة إقطاعية ديكتاتورية وهو ما يوفر سهولة السيطرة علي حكومة أو فرد، وهذه أشياء معروفة.

 
إن المطلوب الآن هو التركيز علي المشاركة المجتمعية في الحياة العامة، ليس المشاركة الفلكلورية مثل التسجيل أوالتصويت، بل المشاركة الحقيقية عبر النظام الدستوري والبرامج التربوية من خلال إعطاء الأولوية للإنسان.. إن أكره ما يمكن أن يكرهه المرء هو هذا اللغو الماسخ حول الحداثة. انا لا أفهم المدلول الذي يعطي لهذه الكلمة من خلال المتشدقين بها. ماذا يريدون تحديثه ومن أعطاهم وكالة لحديث باسم المجتمع عن الحداثة؟..

 
العالم يتطور بسرعة مذهلة بينما لدينا بعض المهرجين يقضون الوقت في الكلام عن حداثة لا وجود لها سوي في مخيلاتهم، مستغلين ذلك لمدة معينة بأساليب ديماغوجية وانتهازية مفضوحة.

(*) مفكر مغربي

(المصدر: صحيفة القدس العربي الصادرة يوم 9 ماي 2003)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق