الثلاثاء، أكتوبر 11

تضـبـيـع الشعـوب


إنني بتطرقي لهذا الموضوع لست بصدد إدانة الرياضة وكرة القدم على الخصوص، فأنا رياضي وأمارس كرة القدم منذ نعومة أظافري وإلى غاية الآن، لأنني أجد فيها متعة وترفيها واسترخاء ومحافظة على لياقتي البدنية، لكنني بالمقابل أُدين بشدة كل مظاهر الهوس الأعمى والتعصب والشوفينية التي أصبحت ترافق هذه اللعبة ذات الشعبية الواسعة  النطاق على المستوى العالمي، من تطاحنات وخصام  وعداوات تنتهي أحيانا بمعارك حقيقية حامية الوطيس تستعمل فيها كل أنواع الشتائم والسباب واللعن وكل الأسلحة من كراسي وعصي وسكاكين وحجارة في الملاعب والشوارع والمقاهي والبيوت والدواوين والإدارات بل حتى في المدارس، مما يؤدي إلى  خلق جو من البغض والكراهية بين محبيها تغذيها بالنار والوقود وتزيد الطين بلة طبول الدعاية من وسائل إعلام مكتوبة ومقروءة ومسموعة.

فكرة القدم هذه ظهرت لأول مرة بإنجلترا في جامعة كامبريدج سنة 1846،  أي قبل تأسس الاتحاد الدولي لكرة القدم
'فـيـفـا' سنة 1904 بمدينة باريس الفرنسية ب 58 سنة، هذا الاتحاد الذي كان في بداية مشواره  يسعى بنوايا حسنة وصادقة إلى  تطوير اللعبة ووضع قواعد مضبوطة تقننها، مع تنظيم بطولة تسمى بكأس العالم كل أربع سنوات، لكن الحرب العالمية الأولى أرجأت تنظيم أول بطولة لكأس العالم حتى سنة 1930، وجرت آنذاك بإحدى دول أمريكا الجنوبية وهي الأورجواي، وكان النصر فيها للأورجواي على الأرجنتين بحصة 4-2 في المبارة النهائية أمام 93000 متفرج، وحصوله على أول كأس عالمية في التاريخ، ثم أخذت بعد ذلك اللعبة مجرى ومسارا خرافيا يمكن تشبيهه بإحدى حكايات ألف ليلة وليلة، لم يكن ليتوقعه أو يتنبأ به  أحد، بحيث انتشرت كالنار في الهشيم في جميع أرجاء المعمور، وأصبحت 'الفيفا' في حد ذاتها دولة متعددة الجنسيات  قائمة بذاتها وحذافيرها تمثل 208 جمعية على المستوى العالمي و 301 ألف  نادي رياضي و 270 مليون ممارس منهم 265 مليون لاعب من ضمنهم 26 مليون امرأة (أصبحت منذ 1991 تُنضم كأس عالمية خاصة بالنساء- إيوا زغرتوا ها هي المساواة حتى فالجلدة المسخوطة)، 5 ملايين من الحكام والإداريين والمدربين، وإذا جمعنا كل هذه الأرقام فلسوف نحصل على عدد يناهز 4% من سكان المعمور.
 لقد أصبحت حاليا كرة القدم عبارة عن ثقافة محملة بإيديولوجية خطيرة يمكن تلخيصها في "استهلك أكثر وتمتع أكثر وفز أكثر  فإنك لن تعيش سوى مرة واحدة "، وكأن بها تساير البروتوكول الثالث عشر  لبروتوكولات حكماء صهيون الذي جاء فيه:" لكي تبقى الجماهير في ضلال، لا تدري ما وراءها، وما أمامها، ولا ما يُراد بها، فإنا سنعمل على زيادة صرف أذهانها، بإنشاء المباهج والمسليات والألعاب الفكاهية، وضروب أشكال الرياضة، واللهو، وما به الغذاء لملذاتها وشهواتها، والإكثار من القصور المزوقة، والمباني المزركشة، ثم نجعل الصحف تدعو إلى مباريات فنية ورياضية"، ولمن له أدنى بصيرة سوف يرى هذا البروتوكول مجسدا بكل حرف من حروفه في كل أرجاء المعمور، ولم تسلم منه حتى الدول الإسلامية والعربية، لقد شوهوا الصورة الجميلة المشرقة لرياضة شعبية نظيفة بعيدة عن كل الشبهات إلى ماخور تختلج في بواطنه  كل أنواع العبث البشري الممزوج بالحقد والكراهية بين الفائز والمهزوم، إنها صورة عصرية ومطلية بالصبائغ والألوان  لكلوسيوم روما الذي كان  يتبارى فيه المتصارعون حتى الفناء.
فهذه الجلدة المملوء بالريح أصبحت خما ضخما لدجاج كثير يبيض ذهبا، فعلى سبيل المثال ما بين سنة 1998 و 2006 تضاعفت  عائدات حقوق النقل التلفزي لمباريات كأس العالم  إحدى عشر مرة، منتقلة من 131 مليون دولار إلى 1.45 مليار دولار، هذا دون احتساب هبات المساندين الرسميين للجلدة كأمثال دراكولا عفوا كوكاكولا وغيرها، ونظرا للأرباح الطائلة والتي في الحقيقة أصبحت شيئا خارج المعقول يمكنه أن يصيب حتى أرسطو أو سقراط بالجنون، صعدت في الأعالي بورصة اللاعبين وأصبحوا هم كذلك دجاجا يبيض ذهبا وأبطالا وقدوة ل 'الْـبَـزّْ'، فحسب اليومية الألمانية 'بيلد' فاللاعب الذي نال  أكبر  التعويضات خلال مساره المهني هو اللاعب الفرنسي نيكولا أنيلكا ب 128.6 مليون يورو، يليه الأرجنتيني هيرمان كريسبو ب 121 مليون يورو ، ثم السويدي الجنسية الصربي الأصل زلاتان إبراهيموفيتش ب 117.8 مليون يورو، فالأرجنتيني خوان سيباستيان فيرون ب 117 مليون يورو، فالبرتغالي كريستيانو رونالدو ب 111.5 مليون يورو، فالبرازيلي رونالدو ب 100.9 مليون يورو، فالإيرلندي روبي كاين ب 97.7 مليون يورو، فالإيطالي كريستيان فييري ب 85.7 مليون يورو، فالفرنسي زين الدين زيدان ب 84 مليون يورو، ويحل في المرتبة العاشرة الهولندي أرجن روبين ب 82.3 مليون يورو، واللائحة طويلة 'أُو تَكْهَمْتْ وَانَا نُوقَفْ'.
وبعد، قل لي بالله عليك ماذا جنيت وماذا ربحت وماذا استفدت أنت يا من تطعن معنويا و ماديا إخوانا لك  في الدين في بلدك أو في غيره من البلدان بسبب هذه الجلدة أو بسبب تعصب للاعب أو مدرب أو ناد من الأندية الكروية، غير الحقد والكراهية وخراب الذمم وانحطاط الهمم وتقطع أواصر الأخوة والصداقة بين الأمم، وأختم قولي هذا بالأبيات الشعرية التالية المقتبسة عن  قصيدة 'كرة القدم'(1) للأديب السوري وليد قصاب، التي  تعبر أصدق تعبير على  أن كرة القدم أصبحت اليوم حقا أفيــونا قــوي المفعــول  لتنـويم وتخــدير وتضـبـيـع الشعــوب:
النــاس تسهر عنـدها...مبهورة حتى الصـباح
وإذا دعا داعي الجهــا...د وقال حي على الفلاح
غط الجميع بنومهــم...فوز الفــريق هو الفلاح
  فوز الفربق هو السبيـ...ل إلى الحضــارة والصلاح
صـارت أجل أمورنا....وحيــاتنا هــذا الزمن
ما عـاد يشغلنا سـوا....ها في الخفــاء وفي العلن
أكلـت عقــول شبابنا...ويَهُودُ تجتــاح المدن
والــلاعب المقدام تصـ...ـنع رجله مجـد الوطن
عجــبا لآلاف الشبـا...ب وإنهم أهــل الشمم
صُـرِفُوا إلى الكرة الحقيـ...ـرة فاسْتُبيِـحَ لهم غنـم
دخــل العـدو بلادهم...وضجيجـها زرع الصمم
أيسجــل التـاريخ أنا... أمـــة مسـتهتــرة
شهـدت سقوط بـلادها...وعيـونها فــوق الكـرة
هوامش
(1 نشرت في العدد 11 الصفحة 64 من مجلة التوحيد  في 11 ذو القعدة سنة 1418 هجرية
 منقوول من ضفاف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق