الأحد، أكتوبر 9

ازدواجية!



من الأمراض النفسية الخطيرة التي تنخر في أجساد المجتمعات المتخلفة هو مرض ازدواج الشخصية، فالطفل في المدرسة يُربّى على المواعظ والنصائح المثالية كقصص الأنبياء، وعدالة الخلفاء الراشدين، وأولياء الله الصالحين، والزهد والعدل والصدق والواجب وحسن الخلق والمساواة والفضيلة والعلم والعفو والتسامح والعفة والصبر والشرف والشجاعة والرحمة والحياء والتواضع لله والأمانة والاستقامة والإخلاص والإحسان والرفق.
فإذا خرج إلى الشارع وجد نفسه منجرفا في تيار قوي من الاعتبارات الاجتماعية الغوغائية الضالعة في الفحش والبداءة والانحرافات الخطيرة في القول والفعل، حتى إذا ما شب واشتد عوده وجد نفسه مكدر ومشتت الأفكار، لا
مبادئ ولا أخلاق ولا قيم، لا يثبت على حال من الأحوال، ينطبق عليه قول الشاعر إذا ما الريح مالت مال حيث تميل.
وينطبق نفس الشيء على المساجد التي ينصت فيها المصلون بتخشع إلى خطب الوعظ والإرشاد يوم الجمعة تنفيذا لقول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون" الآية رقم 9 من سورة الجمعة. لكن بمجرد انتهاء الصلاة يعود القوم إلى معاملاتهم اليومية بما يرافقها من غش وكذب ونفاق وتدليس وتطفيف في الموازين وغير ذلك من الآفات الخطيرة التي تهدد بانشطار تماسك المجتمع، ويُسْقِطُونَ بذلك قول الله تعالى " فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" الآية رقم 10 من سورة الجمعة.
وهذه الازدواجية تجدها في شتى أوجه الحياة حتى أصبحت عادات متأصلة ومستحكمة في المجتمع:
فخلال الأعراس عادة ما يستدعي أصحاب العرس فرقا موسيقية من شيخات ومجموعات غنائية عصرية بآلاتها الصاخبة، ومع ذلك يصرهؤلاء أن ينغصوا نوم كل سكان الحي باستعمالهم لمكبرات للصوت كأنها هدير الرعد تسمع من مسافات بعيدة طوال الليل حتى الصباح، فما بالك بالجوار.
وخلال ذلك تسمعهم يرددون " إلى جاه النبي، الله مع الجاه العالي"، فأي نبي هذا الذي سيسمح ويُجيز مثل هذا الأذى وهذه الهرطقة؟ إلا نبي كمسيلمة الكذاب، وفي هذه الأجواء لا يمكن لأي شخص أن ينام حتى ولوكان أصما أبكما، أو مصابا حتى بالشلل التام حفظنا الله وإياكم من الأهواء والأدواء، والرسول الكريم يقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره".
وقد تصادف شخصا يتمشى في الشارع العام فيبصق بصقة ملونة مشكلة كأنها لوحة زيتية رُسِمَتْ بخرطوم فيل، وآخر كالقرد النسناس يتناول موزة فيرمي بقشرتها أرضا بغير اكتراث، فتمر سيدة تمشي بوقار واحترام فلا تشعر بنفسها إلا وأرجلها مرفوعة في السماء، فتنهض من سقطتها وقد فقدت هدوءها وسكينتها ووقارها وهي تسب وتشتم ببداءة فظيعة ومنقطعة النظير، وتحملق في المارة بغيض واحتقار لدرجة أن الجميع يسرع الخطى لينجو بجلده حتى لا تنقض عليه وتشبعه قمشا ولكما، والرسول الكريم يقول " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا اله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان".
وقد تقوم يوما ما بجولة في مدينتك فتكتشف ما يفعله المتبولون والمتغوطون بآثارها وحيطانها وعراصيها من إهانة معنوية بالغة، وتلويث للبيئة الطبيعية وتشويهها، وما ينتج من أضرر الروائح الكريهة التي تعمي العيون وتزكم الأنوف خصوصا في فصل الصيف مع ارتفاع درجات الحرارة، فعلى طول الأسوار القديمة للمدينة اتخذ المتبولون آثار أجدادهم مراحيض عمومية في الهواء الطلق، وإنني لأخجل أحيانا من نفسي عندما يلتقط السياح الأجانب صورا لمثل هؤلاء المفسدين أثناء القيام بفعلتهم، وأتساءل مع نفسي هل توجد أمة من الأمم في العالم تتبول على تاريخها؟؟. وحتى في المساحات الخضراء، وبالقرب من مسجد الكتبية وصومعته التاريخية، وعلى جنبات الضريح المتواضع والمتهالك للخليفة المجاهد يوسف بن تاشفين مؤسس مدينة مراكش، تجد آثارتبول وغائط لأوباش فعلوا فعلتهم في الخفاء هناك، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول :" "من غسَل سَخِيمتَه أي الغائط على طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملا ئكة والناس أجمعين".
أما إذا ما أخذت الصف يوما ما احتراما للآخرين لأخذ حافلة النقل أو لاستخراج أموال من بنك أو غير ذلك مما يستدعي الوقوق في الصف، فإنك سوف تبقى وحدك كالمغفل أو الأخرق واقفا مع قلة قليلة من أبناء الأصل في الخلف لأن الجميع حذقين و"قافزين" لا يحتاجون لصف ولم يتربوا على صف، بل تربوا على الفوضى والشغب والحسد والميول إلى النزاع لأتفه الأسباب، وإن لم يجدوا من ينازعهم من الغرباء مالوا إلى النزاع مع أبناء عمومتهم أو إخوانهم، والرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام يقول :" إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله".
وقد يقودك القدر يوما ما لقضاء مأرب ملح من مآربك بإحدى الإدارات الحكومية من ولايات وعمالات وقيادات ومحاكم ومستشفيات وقباضات ضرائب وغيرها، فبمجرد دخولك سوف ترى أناسا مميزين عنا نحن الجالسون المستضعفون في صالة الانتظار أو الغبن والاحتقار في الواقع، ولفترات زمنية طويلة ومملة ومحطمة لكل كرامة إنسانية، يدخلون الباب الأعلى، والعالي هو الله سبحانه، ويخرجون وعلامات الزهو والافتخار والرضى بادية على محياهم، وتدرك عند ذلك أنك مواطن من الدرجة العاشرة أو أقل من ذلك بكثير، يجب عليك أينما ارتحلت وحللت في أرجاء وطنك دائما الانتظار ولا شي غير الانتظار، وبعده من الحكمة عليك بالصمت وعدم الكلام حتى يأذن لك ذا الشان والمكان، وإن حاولت في مثل هاته المواقف تطبيق مقولة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "، فإنك إن استعملت الطريقة الأولى أو الثانية، فنظرا لاختلال موازين القوى كما يقال في الحروب، فإنك لا ريب سوف يقع لك ما وقع لبراقش، وتصيح بذكرك الركبان " هذا ما جنته علي براقش"، وبراقش هي كلبة أهلكت نفسها و قبيلتها المستضعفة في حرب من إحدى الحروب بين القبائل العربية أيام الجاهلية. وعند ذلك تكتفي بالطريقة الثالتة كما يكتفي المستضعفون الآخرون، وتقول في قرارة قلبك ذلك أضعف الإيمان، وحسبي الله ونعم الوكيل.
أما فيما يخص قانون السير فحدث ولا حرج نظرا للإرتفاع المهول الذي تعرفه حوادث السير ببلادنا، ولعل عدم احترام إشارات المرور داخل المدن من طرف مرتادي الطريق من أصحاب السيارت والدراجات النارية والعادية وحتى أصحاب العربات المجرورة بواسطة الدواب تعطي للمرء صورة قاتمة عن مدى تخلفنا وعدم احترامنا لبعضنا البعض. فكثيرا ما ترى هؤلاء عند اقترابهم من إشارات المرور ينقصون من سرعتهم، ويلتفتون يمينا ثم شمالا ليتأكدوا من عدم وجود رجال شرطة المرور، وعند ذلك يزيدون من سرعتهم و"يحرقون" الضوء الأحمر بدون خجل ولا وجل. فمثل هؤلاء الجبناء يخافون من البشرالفاني ولا يخشون الله الحي الذي لا يموت.
وقد تلاحظ غير ما مرة وقوف بعض أفراد الأمن بأبواب الخمارات والعلب الليلية لضمان سلامة المكان ومرتاديه المخنتين الثملين حتى النخاع من فتيان وفتيات، في حين تسمع شخصا "مقرقبا" يحمل سيفا كسيف ذِي يَزَنْ يلوح به ويطارد مجموعة من المستضعفين أتوا لأداء صلاة الصبح بأحد المساجد، ولا من منقذ لهم إلا سيقانهم التي أطلقوها للريح.
وحسب جريدة المساء عدد 868 بتاريخ 06 يوليوز 2009، جاء في ركن "مع قهوة الصباح"، بأن المغاربة استهلكوا سنة 2008 ما لا يقل عن 120 مليون قنينة من البيرة، وحوالي 38 مليون قنينة من النبيذ، ومليون وخمسمائة ألف قنينة من الويسكي، ومليون قنينة من الفودكا، ونصف مليون قنينة من الجين، و140 ألف قنينة شمبانيا (علما بأن هذه الإحصائيات لا تشمل المشروبات الكحولية المهربة). فيما أضافت إحصائيات أخرى أن المغاربة أنفقوا سنة 2008 قرابة 36 مليار سنتيم في ألعاب الرهان وخاصة منها "اللوطو".
وبعد كل هذا، عندما تتحدث لمثل هؤلاء الذين سلف ذكرهم يقولون لك " نحن خير أمة أخرجت للناس"، فترفع بصرك وتحدق جيدا في عيونهم وتجيب: إن خير أمة أخرجت للناس لها شروط هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فهل كل هذه الشروط متوفرة فينا الآن؟؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق