الثلاثاء، أكتوبر 11

الاستبداد



يسلب الاستبداد الراحة الفكرية، فيضني الأجسام فوق ضناها بالشقاء، فتمرض العقول ويختل الشعور على درجات متفاوتة في الناس، ولهذا فإن الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة للعامة فضلا عن الأجسام فيفسدها كما يريد ويتغلب على تلك الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوى، فترى أنه قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقّه مطيع، والمشتكي المتظلّم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين، وقد اتبع الناس الاستبداد في تسمية النصح فضولا، والغيرة عداوة، والشهامة عتوّا، والحمية حماقة، والرحمة مرضا، كما جاروه على اعتبار أن النفاق سياسة والتبجيل كياسة والدناءة لطفا والنذالة دماثة. وقد يرى بعض الناس أن للاستبداد حسنات، لكن هيهات منه ذلك: " يقولون أن الاستبداد يربي النفوس على الاعتدال والوقوف عند الحدود، والحق أن ليس هناك غير انكماش وتقهقر، ويقولون أن الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحق أنه عن فقر وعجز لا عن عفة ودين، ويقولون أنه يقلل التعديات والجرائم، والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها فيقل تعديدها لا عددها.... إن أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان. والأخلاق لا تكون أخلاقا ما لم تكن ملكة مطردة على قانون فطري تقتضيه أولا وظيفة الإنسان نحو نفسه، وثانيا وظيفته نحو عائلته، وثالثا وظيفته نحو قومه، ورابعا وظيفته نحو الإنسانية، وهذا القانون هو ما يسمى عند الناس بـ " الناموس "، ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس، وهو كالحيوان
المملوك العنان لا نظام له ولا إرادة، وما هي الإرادة ؟، هي أم الأخلاق، هي تلك الصفة التي تفصل بين الحيوان والنبات في تعريفه أنه متحرك بالإرادة، بينما الشعب في ظل الاستبداد هو شعب مستنبت لا نظام له ولا إرادة.
وقد خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح واستعدادا للفساد، والإنسان لا حدّ لغاياته رقيا أو انحطاطا، يعتقد أن الإنسان أقرب إلى الشر منه للخير مستندا بذلك باقتران اسم الإنسان في القرآن بأوصاف قبيحة مثل ظلوم، غرور، كفّار، جهول و أثيم. والإنسان في نشأته كالغصن الرطب، فهو مستقيم لدن بطبعه، لكن أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشر، فإذا شبّ يبس وبقي على ميوله مادام حيّا. والتربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين وأهم فروعها وجود الدين، ملكة التربية هذه بعد حصولها إن كانت شرا تضافرت مع النفس ووليها الشيطان الخنّاس فرسخت، وإن كانت خيرا تبقى مقلقلة كالسفينة في بحر الأهواء، لا يرسو بها إلا فرعها الديني في السر والعلانية، أو الوازع السياسي عند يقين العقاب.
والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه فلا يمسّها لأنها تلائمه في الأكثر، لذلك تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة، صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئا، ولا تنهي عن فحشاء ولا منكر لفقد الأخلاق فيها تبعا لفقده في النفوس التي ألفت أن تتلجأ وتتلوى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف تلك الحال، أي الرياء، أن يستعمله أيضا مع ربه ومع أبيه وأمه، ومع قومه وجنسه، وحتى مع نفسه. أما في ظل العدالة والحرية يعيش الإنسان نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، إن طعم تلذذ، وإن تلهى تروّح وتريّض لأنه هكذا رأى أبويه وأقرباءه، هكذا يرى قومه الذين يعيش بينهم، أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملا خامدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب، وكل مُسْتَبَد يشعر بآلام الأسر والاستبداد إن كان من العوام أو الخواص، فالعوام يسيئون فهم سبب الشقاء، ويعزونه للقضاء والقدر كقولهم: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحب الله عبدا ابتلاه، إلى آخر هذه المثبطات وينسون حديث " إن الله يكره العبد البطال ". أما الخواص فبلاهة التفكير وما لحقه من سوء تدبير يعميهم عن إدراك سبب الشقاء بالعقل والعدل.
والتربية علم وعمل، وليس من شأن الأمم المملوكة الشؤون، والمستلبة الإرادة أن يوجد فيها من يَعْلَمُ التربية ولا من يُعَلِّمُهَا، و الأسير بعيد عن الاستعداد لقبول التربية، وهي قصر النظر على المحاسن والعبر، وقصر السمع على الفوائد والحكم، وتعويد اللسان على قول الخير، وتعويد اليد على الإتقان، وتكبير النفس عن السفاسف، وتكبير الوجدان عن نصرة الباطل، ورعاية الترتيب في الشؤون، ورعاية التوفير في الوقت والمال، والاندفاع بالكلية لحفظ الشرف، لحفظ الحقوق، ولحماية الدين، لحماية الناموس، ولحب الوطن، لحب العائلة، ولإعانة العلم، لإعانة الضعيف، ولاحتقار الظالمين، إلى غير ذلك مما لا ينبت إلا في أرض العدل، تحت سماء الحرية، في رياض التربيتين العائلية والقومية. فالاستبداد يزلزل التربية المنزلية ويدفع عبيد السلطة أو الأسراء نحو ملذات تافهة كلذة الطعام حيث " يجعلون بطونهم مقابر للحيوانات " إن تيسرت أو " مزابل للنباتات "، وكلذة الرعشة " باستفراغ" الشهوة وبرميهم بالتكاثر الأعمى لتصبح أولادهم في عهد الاستبداد سلاسل من حديد يربطون بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق. إن للتربية ثلاثة أقانيم، تربية العقل وتربية الجسم وتربية النفس، أما تربية العقل فهي تربيته على التمييز، ثم على حسن التفهم والإقناع، ثم على تقوية الهمّة و العزيمة، ثم على التمرين والتعويد، ثم على حسن القدوة والمثال، ثم على المواظبة والإتقان، ثم على التوسط والاعتدال. أما تربية الجسم فتقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمل المشاق، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغداء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة وفي الراحة، وأما تربية النفس فتقتضي معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه. إن التربية هي ضالة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى.
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعبادلعبدالرحمان الكواكبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق