لألكسندر بيركمان
(الترجمة إلى العربية : محمد عبد القادر الفار)
ما هو أكثر ما يريده كل إنسان في الحياة؟ ما الذي تريده “أنت” شخصياً أكثر من أي شيء؟
في النهاية، نحن كلنا مثل بعضنا البعض تحت
هذه الجلود. وأياً كنت – رجلاً أو امرأة، فقيراً أو غنياً، أرستقراطياً أو
متشرداً، أبيضاً، أصفراً، أحمراً، أو أسوداً، ومن أي أرض أو جنسية أو دين –
فكلنا نتشابه في الإحساس بالبرد والجوع، بالحب والكره؛ كلنا نخاف الكوارث
والأمراض، ونحاول أن نبتعد عن الأذى والموت.
لقد كتب المثقفون كتباً ضخمة، كثير منها عن
السوسيولوجيا، والسيكولوجيا، و “أولوجيات” أخرى كثيرة، ليقولوا لك ما الذي
تريده، و مع هذا لم يتفق أي اثنين من هذه الكتب مع بعضهما. ولكنني أعتقد
أنك تعلم تماماً – و من دون مساعدتهم – ما تريده حقاً.
لقد درسوا وكتبوا وفكروا كثيراً في ذلك
الأمر، الذي هو بالنسبة إليهم مسألة صعبة، حتى أصبحت َ أنت، الفرد، مفقوداً
تماماًً في فلسفاتهم. وقد وصلوا في النهاية إلى استنتاج أنك، يا صديقي، لا
تهم على الإطلاق. فالمهم، كما يقولون، ليس أنت، بل “الكل”، أي كل الناس
معاً. وهذا “الكل” يسمونه “المجتمع”، أو “الكومنولث” ، أو “الدولة”. وهؤلاء
المتحذلوقون قد قرروا بالفعل أنه لا يهم إذا كنت أنت، الفرد، تعيساً طالما
كان “المجتمع” على ما يرام. وبطريقة ما ينسون أن يفسروا كيف يمكن أن يكون
“المجتمع” أو “الكل” على ما يرام عندما يكون كل فرد فيه بائساً.
ولهذا يتابعون نسج شباكهم الفلسفية منتجين
مجلدات سميكة من أجل معرفة أين تقع أنت بالفعل في مخطط الأشياء الذي يدعى
حياة، وما تريده في هذه الحياة حقاً.
لكنك تعرف بنفسك ما تريده .. تعرفه جيداً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جارك.
تريد أن تكون بخير وصحة، تريد أن تكون حراً،
أن لا تكون خادماً لأي سيد، أن لا تذل نفسك أو تجثو أمام أي إنسان؛ تريد أن
تحظى بالرفاهية لنفسك، ولعائلتك، وللمقربين منك والأعزاء عليك. وأن لا
تكون قلقاً ومنزعجاً بالخوف من الغد.
قد تشعر أنك واثق من أن كل شخص آخر يريد الشيء نفسه. لذا يبدو أن المسألة برمتها هي كالتالي:
أنت تريد الصحة، والحرية، والرفاهية. وكل واحد من الناس هو مثلك أيضاً، يريد الأشياء نفسها.
وبالتالي كلنا نبحث عن الشيء نفسه في الحياة.
لماذا إذاً لا نبحث عنه معاً، بجهودنا المشتركة، وبأن يساعد كل منا الآخر في ذلك؟
لماذا علينا أن نغش ونسلب، أن نقتل ونغتال
بعضنا البعض، ما دمنا جميعاً نريد الشيء نفسه؟ ألست مستحقاً ومخولاً للحصول
على هذه الأشياء التي تريدها، وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان الذي يقف
بجوارك؟
أم أن بإمكاننا أن نؤمن الصحة والحرية والرفاهية بشكل أفضل عندما نتصارع ونذبح بعضنا البعض؟
أم لأنه لا توجد أي وسيلة أخرى؟
دعونا ننظر إلى هذا :
أليس من المنطقي أنه ما دمنا جميعاً نريد
الشيء نفسه في الحياة، فإن لنا جميعاً الهدف نفسه، وبالتالي فإن “مصالحنا”
هي نفسها أيضاً؟ في هذه الحالة علينا أن نعيش كالإخوة، في سلام وصداقة؛
علينا أن نحسن إلى بعضنا البعض، وأن نساعد بعضنا بقدر استطاعتنا.
لكنك تعلم أن الوضع ليس كذلك على الإطلاق في
واقع الأمر. تعلم أننا لا نعيش مثل الإخوة. تعلم أن العالم مليء بالنزاعات
والحروب. بالتعاسة، والظلم، والأذى. بالجريمة، والاضطهاد.
فلماذا هو كذلك إذاً؟
السبب هو أنه بالرغم من أن لنا جميعاً الهدف نفسه في الحياة، إلا أن “مصالحنا مختلفة”. هذا هو بالضبط ما يخلق كل مشاكل العالم.
فكر في ذلك ملياً بينك وبين نفسك.
لنفرض أنك تريد الحصول على حذاء أو على قبعة.
ستذهب إلى المتجر وستحاول أن تشتري ما تحتاجه بأقل ثمن ممكن ومعقول. هذه
هي “مصلحتك”. لكن مصلحة التاجر هي أن يبيعك ما تحتاجه بأغلى ثمن ممكن، لأن
“ربحه” سيكون أكبر كلما زاد الثمن. هذا لأن كل شيء في الحياة التي نعيشها
مبني على الحصول على الربح، وبأي طريقة. فنحن نعيش في “نظام ربحي”.
من الواضح الآن أنه إذا كان علينا أن نجني
الأرباح من بعضنا البعض، فإن مصالحنا لا يمكن أن تكون واحدة. لا بد أنها
ستكون مختلفة بل متعارضة مع بعضها في أغلب الأحيان.
في كل بلد ستجد أناساً يعيشون من خلال الحصول
على الأرباح من غيرهم. وأولئك الذين يحصلون على أكبر قدر من الأرباح هم
الأغنياء. وأولئك الذين لا يستطيعون الحصول على الأرباح هم الفقراء. أما
الذين لا يستطيعون الحصول على أية أرباح فهم فقط العمال. ومن هنا يمكن أن
تدرك أن مصالح العمال لا يمكن أن تكون نفس مصالح الناس الآخرين. ولهذا ستجد
في كل بلد عدداً من الطبقات ذات مصالح مختلفة كلياً.
في كل مكان ستجد :
(1)
طبقة صغيرة نسبياً تتكون من الأشخاص الذين يجنون أرباحاً كبيرة والذين هم أثرياء جداً، مثل الصرافين، وكبار الصناعيين، وملاكي الأراضي- وهم الأشخاص الذين يمتلكون رأس مال كبير ويطلق عليهم تبعاً لذلك : الرأسماليون. وهؤلاء ينتمون إلى “الطبقة الرأسمالية”.
طبقة صغيرة نسبياً تتكون من الأشخاص الذين يجنون أرباحاً كبيرة والذين هم أثرياء جداً، مثل الصرافين، وكبار الصناعيين، وملاكي الأراضي- وهم الأشخاص الذين يمتلكون رأس مال كبير ويطلق عليهم تبعاً لذلك : الرأسماليون. وهؤلاء ينتمون إلى “الطبقة الرأسمالية”.
(2) طبقة من الأغنياء المتوسطين، وتتكون من
رجال الأعمال وموظفيهم، رجال العقارات، والمضاربين، والمتخصصين مثل الأطباء
والمحامين والمخترعين وغيرهم. هذه هي الطبقة الوسطى أو “البرجوازية”.
(3) أعداد ضخمة من العمال المستخدمين في
مصانع متنوعة، في المطاحن والمناجم، في المعامل والورشات والمتاجر، في
النقل في البواخر وعلى الأرض. هذه هي الطبقة العاملة، والتي تسمى أيضا
“البروليتاريا”.
البرجوازيون والرأسماليون ينتمون في الحقيقة
إلى نفس الطبقة الرأسمالية، لأن لهم نفس المصالح تقريباً، وبالتالي فإن
البرجوازيين يقفون بشكل عام إلى جانب الطبقة الرأسمالية ضد الطبقة العاملة.
ستجد أن الطبقة العاملة هي دائماً الطبقة
الأفقر، في كل بلد. وربما تكون أنت شخصياً ممن ينتمون إلى الطبقة العاملة،
إلى البروليتاريا. وعندها فلا بد أنك تعلم أن الأجور التي تتقاضاها لن تجعل
منك غنياً في يوم من الأيام.
لماذا العمال هم الطبقة الأكثر فقراً؟ إنهم يعملون بالتأكيد أكثر من الطبقات الأخرى، وعملهم شاق أكثر. هل السبب هو أن العمال ليست لهم أهمية كبيرة في حياة المجتمع؟ أو ربما لأن بوسعنا أن نستغني عنهم؟
لماذا العمال هم الطبقة الأكثر فقراً؟ إنهم يعملون بالتأكيد أكثر من الطبقات الأخرى، وعملهم شاق أكثر. هل السبب هو أن العمال ليست لهم أهمية كبيرة في حياة المجتمع؟ أو ربما لأن بوسعنا أن نستغني عنهم؟
دعونا نرى. ماذا نحتاج لنعيش؟ نحتاج إلى
الطعام، والملابس، والمأوى، وإلى المدارس للأطفال، وإلى السيارات والقطارات
للسفر، وإلى ألف شيء وشيء.
هل بإمكانك أن تنظر حولك وتشير إلى شيء واحد
فقط تم صنعه من دون جهد أو “عمل”؟ فالحذاء الذي تقف به، والشوارع التي تمشي
عليها، كلها نتيجة للعمل. وبدون العمل لن يكون هناك شيء سوى الأرض
القاحلة، والحياة الإنسانية ستكون مستحيلة تماماً.
هذا يعني إذاً أن العمل قد أنشأ كل شيء لدينا – كل ثروة العالم. إنها كلها “نتاج للعمل” الذي يطبــّـق على الأرض ومصادرها الطبيعية.
ولكن ما دامت كل الثروات نتاجاً للعمل، لماذا
إذاً لا تعود إلى العمال؟ أي إلى أولئك الذين عملوا بأيديهم أو بعقولهم
لصنعها- العامل اليدوي والعامل بذهنه.
الكل متفق على أن للإنسان الحق في امتلاك الشيء الذي صنعه بنفسه.
ولكن لا يوجد إنسان واحد قام أو يستطيع أن
يقوم بمفرده بصناعة شيء ما. فصناعة شيء واحد تحتاج إلى جهد الكثير من الناس
من مختلف الحرف والتخصصات. فالنجار، على سبيل المثال، لا يمكنه صنع كرسي
بسيط أو مسطبة بمفرده، حتى لو قام بنفسه بقطع شجرة وتجهيز خشبها. فهو يحتاج
إلى منشار وإلى مطرقة، وإلى مسامير وأدوات أخرى، لا يمكنه صناعتها بنفسه.
وحتى لو قام بنفسه بصناعة تلك الأدوات، فعليه أن يجد أولاً المواد الخام،
الحديد والفولاذ، والتي سيكون على أشخاص آخرين أن يزودوه بها.
أو خذ مثالاً آخر – لنقل المهندس المدني. لن
يستطيع هذا أيضاً فعل أي شيء دون ورق وأقلام وأدوات للقياس، وهذه الأشياء
كلها يزوده بها أشخاص آخرون. وكذلك عليه أولاً أن يتعلم مهنته ويقضي سنوات
طويلة في الدراسة، بينما يزوده أشخاص آخرون بما يلزم لحياته في تلك الفترة.
وهذا ينطبق على كل إنسان في العالم اليوم.
يمكن أن ترى إذاً أن لا أحد يستطيع بجهوده
الذاتية منفردة أن يصنع الأشياء التي يحتاج إليها ليعيش. في العصور القديمة
كان الإنسان البدائي الذي عاش في الكهوف قادراً على أن يدق فأساً من الصخر
أو أن يصنع لنفسه قوساً وسهماً، وأن يعيش على ذلك. لكن تلك الأيام قد ولت.
اليوم لا يستطيع إنسان أن يعيش بجهده الخاص فقط: بل يجب أن يستفيد من عمل
الآخرين. وبالتالي فإن كل ما لدينا، كل الثروات، هي نتاج عمل أعداد كبيرة
من الناس، ومن أجيال كثيرة أيضاً. بمعنى آخر : ” إن الأعمال ومنتجات
الأعمال هي اجتماعية”، يصنعها المجتمع ككل.
ولكن إذا كانت كل الثروات التي لدينا
اجتماعية، فمن المنطقي أنها يجب أن تعود إلى المجتمع، أي إلى الناس ككل.
فكيف إذاً نجد أن ثروات العالم تلك يملكها بعض الأفراد وليس كل الناس؟
لماذا لا تعود إلى أولئك الذين كدحوا لإنتاجها – إلى الجماهير التي تعمل
بأيديها أوعقولها، إلى الطبقة العاملة ككل ؟
لا بد أنك تعلم جيداً أن الطبقة الرأسمالية
هي التي تمتلك الجزء الأكبر من ثروات العالم. أليس علينا أن نستنتج إذاً أن
العاملين قد فقدوا الثروة التي صنعوها، أو أنها قد أخذت منهم بطريقة ما؟
هم لم يفقدوها، لأنهم لم يمتلكوها في يوم من الأيام. إذاً لا بد أنها قد أخذت منهم منذ البداية.
إن الأمر هنا قد بدأ يبدو خطيراً، لأنك إذا
قلت أن الثروة قد أخذت من الناس الذين قاموا بصناعتها، فهذا يعني أنها قد
سلبت منهم، أي أنهم قد تعرضوا للسرقة. لأن من المؤكد أن لا أحد يرضى
بإرادته بأن تؤخذ منه ثروته.
إنه اتهام فظيع، لكنه صادق. إن الثروة التي
قام العمال بإنتاجها كطبقة، قد تمت سرقتها منهم بالفعل. وهم يتعرضون لهذه
السرقة بنفس الطريقة في كل يوم في حياتهم، وفي هذه اللحظة تحديداً. ولهذا
قال أحد عظماء المفكرين وهو الفيلسوف الفرنسي برودون : أن أملاك الأغنياء
هي ممتلكات مسروقة.
يمكنك أن تدرك بسهولة كم هو مهم أن يلم كل إنسان مخلص بهذا. وقد تكون متأكداً من أن العمال لو عرفوا بذلك فلن يسكتوا عليه.
***
من كتاب ألكساندر بيركمان : ما هي الأناركية الشيوعية / الفصل الأول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق