الأديب والعالم السوري مصطفى السباعي
إذا فوجئت بنزول المصائب، فلا تيأس من زوالها )أُصيب الدكتور مصطفى السباعي في أواخر أيام حياته بشلل نصفي وظل صابرا محتسبا لمدة ثماني سنوات حتى وفاته رحمه الله سنة 1964)، وإذا فوجئت بتغير الزمان فلا تلجأ إلى الشكوى منه، وإذا فوجئت بتغير الإخوان فلا تكثر من انتقاصهم، وإذا فوجئت بالمرض المؤلم فلا ترفع صوتك بالأنين منه، وإذا فوجئت بارتفاع الأعمار فلا تستمر في استصغار شأنهم، وإذا فوجئت بتحكم الأشرار فلا تقتص من زوال الحكم، وإذا امتدت بك العلة فلا تيأس من رحمة الله، وإذا رأيت في دنياك ما لا يعجبك فاعلم أن هذه سنة الحياة.
لا تتدخل فيما لا يعنيك فتسمع ما لا يرضيك، ولا تتكلم وأنت مُغضب فتسمع ما يزيد غضبك، ولا تمدح مغرورا فتسمع منه ما فيه من احتقارك، ولا تشك إلى من لا يغار عليك فتسمع منه ما يزيد في آلامك، ولا تُبْدِ سخطك على جاهل فتسمع منه ما يزيدك غيظا، ولا تنصح من يستهين بك فتسمع منه ما يشعر بامتهانك، ولا تعظ مفتونا برأيه فتسمع منه ما يزري برأيك، ولا تتحدث إلى مُتَخَاصِمَيْن يما يُسْخِطُهُمَا فتسمع منهما ما يجعلك ثالثهما، ولا تذكر زوجتك وهي مغضبة بما قدمت لها من خير فتسمع منها إنكار ذلك كله، ولا تدل بأبويك على ولدك العاق الجاهل فتسمع منه ما تتمنى معه أن لا تكون ولدته.
الأستاذ علي عزت بيغوفيتش
(الرئيس السابق لجمهورية البوسنة والهرسك)
هل نربي المسلمين أو الجبناء؟ أتخيل هذه المقالة القصيرة حوارا مع الآباء والمربين الدينيين، وافيت قبل أيام صديقي الحميم المؤمن المخلص الذي يعيش للإسلام وهو يكتب مقالا في تربية الشباب المسلم، وقرأت المقال قبل أن يأخذ شكله النهائي، ولكن معالمه وأهدافه الرئيسية كانت معروضة بوضوح، في تركيزه على التربية في كنف الإسلام يدعو صديقي الوالدين إلى التنشئة على مكارم الأخلاق، حسن التعامل مع الناس، والتواضع وعدم الرغبة في البروز والرأفة والعفو والاستسلام للقدر والصبر، وينبه المربين إلى ضرورة إبعاد الشباب عن الشارع وأفلام العنف والجرائم ورعاة البقر، والمطبوعات الضارة وممارسة أنواع الرياضة التي تدفع إلى العنف والمجاراة، إن أكثر كلماته ورودا وبروزا في المقال هي كلمة الطاعة، على الشباب أن يطيعوا الوالدين في البيت، والإمام في الكتاتيب، والمدرس والأستاذ في المدرسة، والشرطي في الشارع، وغدا المدير المسؤول والرئيس في العمل!
ولكي يجسد أهدافه المثالية يصور لنا الكاتب ولدا يتجنب كل الأخطاء، فليس مشاغبا في الشارع، ولا يشاهد أفلام العنف في السينما، بل يواظب على حضور دورات مفيدة، لا يلعب كرة القدم لأنها رياضة عنف، ولا يغازل البنات لأن والده سوف يختار له زوجة عندما يكبر، لا يرفع صوته أبدا، ولا يسمع له حس، ويشكر الجميع ويعتذر باستمرار، ولم يكمل الكاتب قصته في هذا الاتجاه، لكننا نستطيع إتمامها على هذا المنوال: يسكت إذا خدعوه في البيع، لا يرد إذا ضربوه في الشارع لأن ذلك لا يليق، أو بعبارة أخرى : إنه مثال لمن لا يكن شرا لأي مخلوق.
أدركت ذلك القول المأثور "إن الطريق إلى النار ممهد بالنوايا الحسنة" وأنا أقرأ المقال، ليس فقط هذا، بل لقد أدركت جزءا من أسباب تخلفنا وانحطاطنا في القرون الأخيرة: إنها تربية خاطئة للنشء.
في الحقيقة، نحن نربي شبابنا تربية خاطئة منذ قرون، نتيجة لعدم فهمنا للفكر الإسلامي الأصيل، في وقت كان أعداء الإسلام من المستعمرين يستولون على الدول الإسلامية دولة تلو دولة، اعتمادا على علومهم وغطرستهم وعدم مبالاتهم بنا، كنا نربي أجيالنا بأن يُكِنُّوا الخير للجميع، وليستسلموا لطوارق القدر، وليتحلوا بالطاعة، وليطيعوا ولي الأمر طاعة عمياء، لأن كل حكم يأتي من عند الله!!
لا أعرف بالضبط مصدر فلسفة الطاعة البئيسة هذه، ولكني أعرف يقينا أن الإسلام ليس مصدرها، لأنها تؤدي وظيفتين تكمل إحداهما الأخرى بصورة غير مباشرة: من جانب تُمِيت الأحياء، ومن جانب آخر لإبرازها هذه المثل الخاطئة باسم الإسلام تحشد حول الإسلام أجيالا ماتت قبل أن تبدأ حياتها، إنها تُحِيل كائنات بشرية سوية إلى أناس لا يثقون في أنفسهم، الذين يطاردهم شبح الذنب والإدانة، لتصبح هذه الفلسفة موئلا لأقزام البشر الذين يهربون من الواقع بحثا عن الملجأ في الاستسلام السلبي ومواساة النفس.
بهذا التفسير فقط يمكن توضيح الحقيقة بأن رواد ورموز الفكر الإسلامي، أو كما هم يسمون أنفسهم، يلاقون الهزائم في أي مواجهة، في عهد الصحوة المعاصرة، هؤلاء المقيدون بفلسفة المناهي والتساؤلات، على الرغم من كونهم يتصفون بالتقوى والأخلاق السامية، يظهرون أنهم أقل شأنا وغير أكفاء في مواجهة أناس أقل نزاهة وثقافة منهم، ولكنهم حازمون وأصلاب، وأعداء يعرفون جيدا ما الأهداف التي يسعون إليها، لذلك لا يلتفتون إلى الرسائل التي ستبلغهم إياها.
أليس من الطبيعي أن يقود الشعوب الإسلامية رجال تربوا في الإسلام واستلهموا الطريق من الفكر الإسلامي؟ ولكنهم لا ينجحون في ذلك لسبب واحد: إنهم قد رُبُّوا ليكونوا أتباعا لا قادة.
أليس من كنه المنطق أن يكون المسلمون المخلصون ركائز الثورة على المستعمر الأجنبي والأفكار الأجنبية الدخيلة والطغيان السياسي والاقتصادي؟ ولكنهم غير قادرين على ذلك، لنفس هذا السبب الأساسي، لأنهم تعلموا ألا يرفعوا صوتهم مجلجلا، وأن يقولوا سمعا وطاعة!
إننا لم نرب المسلمين، بل ربينا جبناء مستسلمين، وديعين خدما، فطوبى لكل نظام بأشباه الرجال من أمثالنا؟
ألسنا نحن مشاركين في استعباد واضطهاد شعوبنا، في هذا العالم المليء بالفتن والرذائل والملهيات والرق والظلم، إذا طالبنا الشباب بالابتعاد عن كل ذلك، ليكون هادئا مهذبا مطيعا؟
هناك عدة جوانب لحالتنا النفسية هذه، ومنها الحديث المتكرر الدائم عن تاريخنا، إنهم يحدثون الشباب عما كان عليه الإسلام في التاريخ، وليس عما يجب أن يكون عليه، يعرف شبابنا الكثير عن قصر الحمراء والفتوحات الماضية وبغداد مدينة ألف ليلة وليلة ومكتبات سمرقند وقرطبة الزاخرة، إن عقلية الشباب توجهت كليا نحو التاريخ المجيد وبدأ يعيش من ذلك التاريخ، إن التاريخ مهم بلا شك، ولكن ترميم سقف المسجد بجوار بيتك أنفع للإسلام من معرفتك بأسماء جميع المساجد الشهيرة التي أقامها أسلافنا.
ينتاب الإنسان شعور أحيانا بضرورة إحراق كل هذا التاريخ المجيد الذي أصبح ملاذا لحسراتنا ونحيبنا ولحياتنا المبنية على الذكريات! وقد يكون من الأفضل أن نهدم كل تلك الآثار البديعة، إن كان ذلك شرطا لأن ندرك أننا لا نستطيع العيش من التاريخ، وأننا يجب أن نعمل للإسلام شيئا بأيدينا!
إنه لمن صريح التناقض أن تقدم لنا تربية الذل والانصياع والطاعة هذه باسم تربية القرآن، القرآن الذي يذكر مبدأ الجهاد ومقاومة الظلم في أكثر من خمسين موضعا، وأنا أجزم هنا بأن القرآن الكريم قد حرم هذا النوع من الطاعة، فبدل من طاعة العظماء والسلاطين الزائفين، أقر القرآن نوعا واحدا من الطاعة فقط، الطاعة لله وحده! ولكن القرآن بنى على هذه الطاعة المطلقة لله حرية الإنسان وتحرره من أي طاعة أخرى أو خوف من أحد.
إذن، ما الذي ينبغي أن ننصح به الآباء والمربين؟ يجب أن ننبههم ، قبل كل شيء، ألا يقتلوا هذه الطاقة في الشباب، عليهم أن يصوغوا هذه الطاقة وأن يوجهوها، لأن الشباب المسلوب الإرادة لا ينفع الإسلام ولا سبيل لإعادة إحياء الإسلام بأناس "أموات"، ولكي يربوا المسلمين عليهم أن يربوا رجالا كاملين، وليحدثوهم عن العزة أكثر من الطاعة، وعن الشجاعة أكثر من التواضع، وعن العدالة أكثر من الشفقة، ليخرجوا لنا جيل العزة والمهابة الذي سوف يقف على قدميه بثبات ليمضي في طريقه من غير أن يسأل عن الإذن من أحد.
ولنعلم جيدا : إن تقدم الإسلام - مثل أي تقدم آخر - سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين، لا على أيدي الوديعين المطيعين.
الكاتب المصري أحمد بهجت
هناك نساء كالمدن..ونساء كالصحراء..
وهناك رجال كالبحار..ورجال كالبحيرات المغلقة..
والمرأة المدينة هي المرأة التي لا تكف عن العطاء، سواء كانت البيوت مسدلة الستائر، أو مفتوحة النوافذ..وسواء كان هناك صخب أطفال يلعبون، أو هدوء رجل يقرأ..أما المرأة الصحراء فتمشي في فيافيها فلا تقع عيناك على غير كثبان الرمال، وكلما اشتد بك الظمأ أسرعت نحو هذا السراب الذي تتوهم أنه واحة..ويبتعد الوهم كلما اقتربت منه.
والرجل البحر، هو الرجل ذو السطح الهادئ، الذي لا يكدره شيء، وإن أُلقيت فيه آلاف الأكدار، بل هو الصفاء الذي يصفو به الكدر ذاته..والرجل البحر هو الذي ينطوي داخله على لؤلؤ ينام في محارات الألم، ويخفق فيه الموج - مدا وجزرا - مع حركة النجوم والقمر..
أما الرجل البحيرة، فهو الرجل الراكد المنبسط الآسن، المتوقف وجوده على العمليات الفيزيقية، فهو يأكل ويشرب، وينام ويصحو، ولكنه لا يحلم..وأحيانا يتزوج رجل كالبحر من امرأة كالصحراء..أو تتزوج امرأة كالمدينة من رجل كالبحيرة.. وتختلف النتائج في كل مرة باختلاف الأشخاص..وحين يتزوج رجل كالبحر من امرأة كالصحراء، يضيع ماء البحر في الصحراء ويجف، أو يظل البحر بحرا والصحراء صحراء..يظل هناك فاصل بين البحر والصحراء.
أما المرأة المدينة حين تتزوج من رجل كالبحيرة، فإن النتائج تكون توقف الحركة، وغرق الطرقات، ورشاش الماء الذي تقذفه عجلات السيارات المسرعة.
والجنة على الأرض هي اقتران رجل كالبحر بامرأة كالمدينة، فليس هناك أصفى من مدينة يرقد البحر عند مشارفها، وتهب عليها الرياح البحرية من بوابات الأرض المتصلة بالسماء..
والجحيم على الأرض هو اقتران امرأة كالصحراء برجل كالبحيرة المغلقة..ولقد قيل في حكمة الشعوب: "إن اختيار الرفيق يأتي قبل اختيار الطريق"، ويصدق هذا المثل على العلاقات بين البشر أكثر مما يصدق على أي شيء آخر..
ومن المدهش أن هناك عنصرا خارجيا إذا وُجِدَ أو غاب أَثَّرَ وجوده أو غيبته على الموقف تماما، أن الرجل البحر أو المرأة المدينة يتحولان إلى بحيرة وصحراء إذا فَقَدَا الحب، كما أن الرجل البحيرة والمرأة الصحراء يتحولان إلى العكس إذا عرفا الحب..
مشكلة عويصة أشبه ما تكون بالســر.
ليس من المستحسن أن يكون للكاتب كثير من المعجبين..وكل رجل ذي عمل مع الجمهور يجب أن يطهر الهواء المحيط به بمطهر الحقيقة..فالفكر والكلمة ليسا مجرد وسيلة للتبذخ المنطقي أو التسلية..هناك قراء حقيقيون ولكنهم قلائل، أولئك يعتقدون بحرارة أن الإنسان سيد هذه الحياة ..وأن حقه في حرية الفكر والقول حق مقدس، أولئك يقرءون بذكاء، ويفكرون بحرية، ويقولون لما يقرءون هذا حق..أما ذاك فلا..إن الرجل الجيد، الرجل الحي، هو الذي يبحث دائما عن شيء، أما أنتم يا من تعيشون مرتاحي البال، مطيعين، جامدين، تتكاسلون عن التفكير، وتخافون الحركة، فكل غايتكم من القراءة الظفر ببضع كلمات تتلمظون بها في المجالس ..إن الحياة، هي القصيدة البطولية للإنسان الذي يبحث عن قلبه حتى لو لم يجده..الإنسان الذي يريد أن يعرف كل شيء حتى لو لم يصل إلى ذلك..والذي يرجو أن يكون قويا، حتى لو لم يستطع التغلب على ضعفه..إني أقدس الاستياء الذي يشعر به الإنسان تجاه نفسه، والذي يدفعه إلى الأفضل دوما..وأقدس رغبة الإنسان في أن يكنس من الأرض كل ما فيها من حسد وشره ومرض وجريمة ورغبة في أن يلغي الحروب، ويجهز على كل عداوة بين الناس..لست أحتفظ من ساعة مولدي بأي تذكار، لكن جدتي قالت لي إنني صرخت عندما أعطيت الروح الإنساني، وأريد أن أعتقد أن صرختي تلك كانت صرخة كراهية واحتجاج..ليس لنا سوى اتجاه واحد نتحرك فيه، وهذا الاتجاه هو الأمام..وهو أيضا أن نعرف مباشرة وبأنفسنا قيمة العمل الخالق لكل ما هو جميل وكبير وثمين في هذا العالم.
الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون
إن الروح وحدها تستطيع أن تعلم، ولا يقدر على التعليم أي رجل دنس، ولا أي رجل مادي، ولا كاذب، ولا الرقيق..إن الذي يعطي، هو وحده الذي يملك، والذي تتحدث الروح بوساطته، هو وحده القادر على أن يعلمنا..فالشجاعة والورع والمحبة والحكمة تعلمنا.
ويستطيع كل إنسان أن يفتح بابه لهذه الملائكة، ولسوف تقود إليه الألسنة..أما الذي يريد أن يتكلم وحسب فإنه يهذي وخير له أن يسكت..إن الثبات السخيف على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة، أما الروح العظيمة فإنها تستنكف هذا الثبات، انطلق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية وانطلق غدا بما تفكر به غدا في ألفاظ قوية كذلك، حتى وإن ناقض كل ما قلته اليوم، وثق أنه سوف يُساء فهمك، وهل من شر الأمور أن يُساء فهمك؟ لقد أُسيء فهم فيتاغوراس وكذلك سقراط والمسيح ولوثر وكوبرنيكس وغاليليو ونيوتن وكل روح طاهرة عاقلة.
لكي تكون عظيما لا بد أن يُساء فهمك، ويهب الله لكل عقل الخيار بين الحقيقة والراحة..اختر منهما ما شئت، ولكن لن تظفر بكلتيهما، إن من يختار الراحة لا يشاهد الحقيقة ومن يختار الحقيقة يظل جوَّابا سابحا يعيدا عن كل مرفأ.
ومن أراد أن يكون رجلا، ينبغي أن ينشق عن السائد المألوف، ومن يحب أن يجمع ثمرة النخيل الخالد، ينبغي ألا يعوقه ما يسميه الناس خيرا، بل يجب عليه أن يكتشف إن كان ذلك خيرا حقا!! لا شيء في النهاية مقدس سوى نزاهة عقلك ، حرر نفسك لنفسك يؤيدك العالم.
إني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم، وأن تسيروا إلى الله بغير وسيط وبغير حجاب..اشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار..ولكن ليقل كل منكم أنا كذلك إنسان، إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج، والمقلد يحكم على نفسه بضعف لا رجاء فيه، وإنه ليحرم نفسه جمالها كي يقترب من جمال إنسان آخر.
الباحث الفرنسي آلان كليس
نادر ما تظهر الحياة الاجتماعية في حالتها الصرفة فالممارسات وأنماط التنظيم تحددها أجهزة معقدة، والمؤسسات على اختلاف أنواعها: الأسرة، المدرسة، الوطن، تُعْجِز عقولنا وترسخ فيها الرموز والمحرمات الجماعية رغم أنفنا.
إن الأنظمة السياسية لا تقدم للملاحظة إلا ما هو مشرف : الدولة في أزهى واجهاتها، خطاب مؤثر من الطيبوبة والكرم، شرطة نظيفة وجيش فوق كل الشبهات، والفاعلون يلعبون دورا معصوما والممارسات السياسية ماهرة صافية، رسميا "كل شيء عادي" فيما يخص الانتخابات، والديمقراطية في حالة جيدة، والحريات العامة مضمونة، وتبقى النصوص، إنها تقول شيئا واحدا "كل شيء يسير طبقا للقانون".
إن السلطة ثرثارة، إلا أنه ينقصها سعة الخيال، فهي تنشر ترسانة متينة من الشعارات الجاهزة : الديمقراطية، المساواة العدل للجميع وخطاب أولئك الذين هم خارج السلطة يكاد يكون أقل تفاهة، "ألسنة من خشب في مواجهة كلمة من حديد"، وفيما عدا هذه الحقائق الرسمية، " ليس هناك أي شيء يمكن رؤيته، انصرفوا!!"، فالدولة تغطي الحقيقة بطبقة من الإسمنت حتى لا يظهر أي صراع أو تناقض أو تسخير أو اختلاس، والحقيقة الرسمية لا غبار عليها، وفيما عدا هذا ليس هناك أي شيء يمكن دراسته.
يجب أن لا نبحث عن علم السياسة حيث لا يوجد، فالتسميات خادعة، ذلك أن علم السياسة لا يدرس في " معهد العلوم السياسية" بشارع سان غيوم بباريس، ولا في أكاديمية العلوم بموسكو، ولا في إحدى هذه الجامعات الأمريكية الخصوصية حيث يمكن شراء دبلوم علم السياسة دون أن تضع قدميك فيها، وعلى الرغم من ميوعة محتواه (لا موضوع ولا مناهج خاصة) فإن علم السياسة يجلب تعويضا اجتماعيا مشرفا، فمن هب ودب يدعي أنه يشتغل بعلم السياسة: الصحفيون، الدبلوماسيون وأساتذة القانون.
وفي سوق العمل لم يعد علم السياسة مربحا، غير أنه يشكل إحدى الكماليات المفيدة بالنسبة لشاب منحدر من عائلة مرموقة، متمكن من دبلوم في الهندسة بالخارج ومعتمد على معارف أبيه، فبالنسبة للساسة، يمنح علم السياسة، شأنه في ذلك شأن القانون، حدا أدنى من الشرف مقرونا بالأسلوب الجيد والعادات الحسنة، وهذا ما يطلق عليه الفرنسيون "الشيم المتمدنة" أي أنه يحضر الحياة السياسية وتلكم وظيفته الاجتماعية، وخارج الاجتماعي، يتسلق الباحث الهاوي "دروب العلم العسيرة" بعناء، عماذا يبحث؟ هو نفسه قلما يدري! إنه يريد أن يفهم لا أقل ولا أكثر، يريد أن يفهم الواقع الثاوي وراء الأجهزة المصفحة لأنظمة السلطة، فالدولة وإيديولوجيوها المحترفون : الأقلام المتملقة، والمقربون والأتقياء المزورون والأبواق المأجورة والرؤساء المديرون العامون، يلفقون التاريخ الرسمي بدون أحداث، فكيف يمكن إذن أن نؤول وقائع سياسية لا وجود لها رسميا.
المفكر والفيلسوف الفرنسي إيتين دي لا بويسيه
إنه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب متى تم إخضاعه يسقط فجأة في هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد سلبه القدرة على الاستيقاظ لا ستردادها وجعله يسرع للخدمة صراحة وطواعية حتى ليهيأ لمن يراه أنه لم يخسر حريته وإنما كسب عبوديته، صحيح أن الناس
لا يُقْبِلون على الخدمة في أول الأمر إلا جبرا وخضوعا للقوة ولكن من يأتون بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف ويأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطرارا، ذلك أن من ولدوا وهم مغلولو الأعناق ثم أُطْعِموا وتَرَبوا في ظل الاسترقاق دون نظر إلى أفق أبعد يقنعون بالعيش مثلما وُلِدوا، ثم إنه لما كان التفكير في حال مختلفة أو في حق آخر لا يطرأ على بالهم، فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ الأمر الطبيعي.
ومن وُلِدوا في غياهب هذا الليل الطويل إذا كانوا لم يسمعوا البتة أحدا يتحدث عن الضوء، هل نعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التي ولدوا فيها دون أن يستشعروا الرغبة في النور؟ أجل أن من طبيعة الإنسان أن يكون حرا وأن يريد كونه كذلك ولكن من طبيعته أيضا أن يتطبع بما نشأ عليه، لنقل إن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي، فلا شيء ينتسب إلى فطرته سوى ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة التي لم يمسسها التغير، ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة.
إن السبب الأول الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد هو كونهم يُولدون رقيقا وينشأون كذلك ، إلى هذا السبب يُضَافُ سبب آخر هو أن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين، ومن المحقق أن الحرية تزول بزوال الشهامة، فالقوم التابعون لا همة لهم في القتال ولا جلد، إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يشدون إليه شدا، أشبه بنيام يؤدون واجبا فُرِضَ عليهم، لا يشعرون بلهب الحرية يحترق في قلوبهم، هذا اللهب الذي يجعل المرء يزدري المخاطر ويود لو اكتسب بروعة موتة الشرف والمجد بين أقرانه، إن الأحرار يتنافسون كل من أجل الجماعة ومن أجل نفسه وينتظرون جميعا نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار، أما المستعبدون فهم عدا هذه الشجاعة في القتال يفقدون أيضا الهمة في كل موقف وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال، وهذا أمر يعلمه الطغاة جيدا، فهم ما أن يروا الناس في هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضي فيه حتى يزدادوا استــنـعــاجــا.
الكاتب الليبي الصادق النيهوم
إننا عرب يجمعنا مصير واحد، وهي فكرة عاطفية لها علاقة بحب المواساة، وليس بحب الواقع، وقد أثبت ظهور النفط، إلى أي مدى، تستطيع مصائرنا أن تختلف، رغم مصيرنا الخـرافي المشتـرك، حتى أن مواطنا عربيا مفلسا وجائعا وحافي القدمين، يستطيع أن يعيش على بعد مرمى حجر من مواطن عربي آخر يبذر ثروات لا تُحصى في القمار والدعارة وشراء الخدم، من دون أن يردعه بموجب قانون عادل واحد، أو حتى أن يقذفه بحجر، وإذا كان هذا اسمه المصير المشترك، فذلك مرده أننا مشتركون عمدا في تزوير مثل هذه الأسماء، إن ثقافتنا العربية المعاصرة لا تملك الحصان وليس لها لغة مشتركة، وليس لديها تاريخ مشترك، ولا تخاطب كل العرب، ولا تستطيع أن تغير واقعهم، لأنها ثقافة مترجمة في غياب العرب أنفسهم.
إن الثقافة من دون حرية الفكر لا تستطيع أن تكون ثقافة إنسانية حقا، وليس بوسعها أن تلتزم بالدفاع عن عالم الناس، لكنها من جهة أخرى لا تعرف كيف تسد هذا العيب الظاهر، وليس لديها خيار آخر سوى أن تدبر لنفسها قناعا إنسانيا مزورا، وتندس وراءه في محاولة طفولية لافتعال عاصفة داخل فنجان، إنها تقول كلاما كبيرا جدا، على لسان مثقف في حجم فأر، مثقف لا يملك حق الكلام، في مجتمع لا يملك حق النشر، تحت سلطة لا تحبذ تبادل الأفكار، مثقف وحيد، لا يضمن الناس حقه في إبداء الرأي، مهمته أن يضمن حقوق الناس وأن يدافع عنهم بقلم رصاص، في وجه أنظمة بوليسية عاتية، تقاتل بالرصاص، وأن يقول لهم جـــهارا، ما لا يُطيق أحد أن يسمعه ســـــرا.
عالم الاجتماع العراقي علي الوردي
العرب مصابون بداء ازدواج الشخصية أكثر من غيرهم، ولعل السبب في ذلك ناشئ عن كونهم وقعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين: هما البداوة والإسلام، إن قيم البداوة تحرض على الكبرياء وحب الرئاسة وتفتخر بالنسب، أما الإسلام فهو دين الخضوع والتقوى والعدالة وما شابه، ولعلي لا أبالغ إذا قلت بأن العربي بدوي في عقله الباطن، مسلم في عقله الظاهر، فهو يمجد القوة والفخار والتعالي في أفعاله بينما هو في أقواله يعظ الناس بتقوى الله وبالمساواة بين الناس، إن المفكرين العرب قد حلقوا في سماء الوعظ كثيرا، فلم يقربوا أسلوب وعظهم من الواقع الذي يعيش الناس فيه، ولهذا أصبحت هناك فجوة بين واقعية الحياة ومثالية الفكر عندهم.
إن الطبيعة البدوية هي طبيعة الحرب، فالبدوي لا يفهم من دنياه غير التفاخر بالقوة والشجاعة والغلبة، وهذه تؤدي عادة إلى حب التعالي والكبرياء والرئاسة، وقد اشتهر البدوي أنه مشاغب حسود ميال إلى النزاع، فإذا لم يجد من ينازعه من الغرباء مال إلى النزاع مع ابن عمه أو أخيه، والبدوي لا يستطيع أن يكون مسلما حقيقيا إلا حين يكون المجتمع الإسلامي في حرب مع أعداءه، ولا يخفى أن هذه الطبيعة البدوية تناقض روح الإسلام
منقول من ضفاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق