م. محمد صالح البدراني
عشنا ــ ومازلنا نعيش ــ كإلكترونات دائرة في محاور تبعد أو
تقترب من مركز منظومة تنمية التخلف، فنحن نشأنا في بيئتها، وتعلمنا من
معارف تشكلت في عملية صراع داخلي بين تحديات الوعي وبين رغبة التضليل,
ليكون علمًا مختلطًا قد لا ينال التشويه بعضه, لكن الحال لا يسلم في جله.
إنَّ خير وسيلة لتنقية المعرفة هي نقدها وليس تلقيها
بتقليدية، فذاك إنصاف للمعرفة ذاتها, لأن المعرفة لا يمكن أن تُؤدي للتخلف
إلا اإذا كانت مشوهة مشوشة، وتنقيتها إنصاف لها, ورحمة منا لأنفسنا, بدل
الضياع والشتات.
إنَّ الرغبات الثائرة في مجتمعنا اليوم, ومهما وصفت ومهما
انبهرنا بفعلها, تحتاج إلى وقفة، ذلك لأنَّ الإرادة واحدة, بيد أنَّ
اتّجاهها تحدده المعلوماتية, أو المعرفة ودرجة نقائها، فلا حضارة تصلح أن
تكون فكرًا وهوية لمجتمع ما لم تكن نقية بلا شك ولا ريبة، ولا مدنية ممكن
أن تنمو في مجتمع مضطرب, وفقدان الإنسان فيه للأمن والأمان، فالعمارة لا
يمكن أن تدوم أو تنمو مع التخريب، والجهل لا يتقبل التطور، والجاهلية لا
تقدر على صنع سعادة الإنسان وعلو مكانته وتحقيق تكريم الله له، ونحن نرى
كيف أن التطور المدني لا يعطي الإنسان مكانته, وإنما يعطي عوامل أخرى باسم
الإنسان المنهوبة كرامته، كذلك نرى أدعياء المعرفة والفكر والعلم وهم يبقون
على السطح ليغرقوا أفواجًا من الناس, في أفكار مضللة, وعقيدة خربة, يسميها
ما يسميها هؤلاء ضحايا التقليدية والتخلف، إلا أنها جاهلية جهلاء لم تزد
واقعنا إلا فرقة وعنت، وخصوصًا إذا ما تربعت على مصادر الثروة وملكت آليات
القوة.
لابد أنْ لا ننظر إلى حجم الرؤوس, وما تعتمر هذه الرؤوس,
وإنما ننظر إلى ما تحتها, فالغرائز تحرك معظمها من حب لجاه ومال ومكانة لا
يستحق أدنى منها من هو في بحر التخلف مكانه ويتنفس بخياشيمه من أسن ماء ذاك
البحر الراكد المتوسع من أطرافة ليغرق الجميع.
إنَّ الإرادة قد تأخذ اتجاه السلبية وقد تأخذ اتجاه
الإيجابية، لأن تحسس الأشياء هو من يطلق إرادة الحراك, وهي إرادة موحدة
معبرة عن حاجة ما عند البشر، لكن فشل الداخل والمحيط ومعرفة مشوهة ضبابية
هنَّ من يطلقها عشوائية نحو الشر, وهذا ما نراه في مفاصل عدة وبلدان عدة،
أما إن كانت هنالك معرفة نقية وتكونت بها الشخصية من عقلية ونفسية فإن
الارادة ستتجه نحو الصلاح والصلاح يعني الرقي الحضاري والتطور المدني, وتلك
تمام السعادة بإتمام المهمة التي خلق الله لها الانسان في خلافة الأرض
وعمارها.
لننتبه أيها السادة, فالجمع لايعني القوة, لأن ذئبًا واحدًا قادرًا على قسمة القطيع خِزاعا(1),
وهو يجتاحها طالبًا فريسة وقعت لمشتهاه، وقد تجتمع الناس من الرعب بلا
هدف, ولكن جمعها من غير معرفة لا يفيدها قوة ولا يرهب لها عدو، إنما الجمع
بالمعرفة وإن قل فهو يتوالد القوة والعزوة, ونحن نرى اليوم قطعانا وذئاب
إلا من رحم ربي.
إنَّ نقاء المعرفة حتمًا سيفضي إلى اجتهاد نبني به منظومة النهضة التي ستشرق نورًا على الإنسانية جمعاء.
لقد ورثنا من المعرفة الكثير, ومن هذا الكثير ما يحتاج إلى
تنقية ونقد، ونقد المعرفة تنقيتها كما قلنا، ونحن نرى اليوم الناس تقتل
بعضها على مذاهب وطوائف ومعتقدات وأديان وقومية وقبلية، بل وحتى رغبات
شخصية ليس لها قيمة إلا عند ذاك الإنسان الذي لم يعد إنسانًا..
يا سادتي إنساننا اليوم بحاجة لهوية تعرّفه بحاجة لعقلية نقية
تبني نفسية نقية، فبعض الفرق من المسلمين يتصور أن التمكين له وليس معنى
التمكين لله ورسوله بشرعه فما أن تصير إليه القوة حتى يفرض آراء شطحات
التاريخ بالسلاح وهدر الدم وفساد في الأرض ويتصور أنَّ السلطة والسلطان
غاية المنى والبيان.
علينا أن نتفق قبل أن ندمر بعضنا، علينا أن نحدد مصادر كينونة
شخصيتنا وهويتنا وهي كتاب الله وسنة رسوله، ونحقق المعرفة التاريخية من
جديد وليس لتثبيت التشويه، الذي ولّد هذه المسوخ التي تقودها الجهلة
الحاملة رايات العلم, هذا إن لم نهجره جميعًا ونبني على ما ذكرت من جديد,
فليس معقولاً إن تدور هذه الأمة بدوار التخلف ومحاور منظومة تنمية التخلف،
وكلما أرادت النهوض تسقطها الجهالة.
إنها مسئولية كل ذي عقل ألقى السمع وهو شهيد، فمن ملك العقل رشد، ومن ملكه هواه تاه, فلا بناء لدنيا ولا مكرم آخرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق