بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين ونهاية المعسكر الشيوعي دخل العالم مرحلة تاريخية جديدة وعصر ما يعرف بالمعرفة والتقنيات وحقبة القطب الوحيد أو القوة الوحيدة الممثلة في الولايات المتحدة الأميركية.
|
فأصبحت الإمبريالية لا تعني توسعا استعماريا للاستيلاء على مناطق لأسباب اقتصادية، ولم تعد تعتمد التدخل العسكري المباشر في تلك المناطق أو الوجود في عين المكان، بل إنها تعتمد من الوسائل الحديثة ما يكفل لها التحكم عن بعد في كل بلد حول العالم الذي تحول إلى عالم استخباراتي محض. ودخلنا في ما سماها الدكتور المهدي المنجرة في كتابه "الإهانة في عهد الميغا إمبريالية" الحرب الحضارية الثانية وهي "حرب ضد كل ما هو عربي مسلم، وإذا شئنا فهي ضد كل ما هو غير يهودي مسيحي"، والحرب على العراق جزء منها.
أما حدث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 فهو لا يغير في المسلسل المذكور شئيا، إذ كانت كل الأشياء معدة وفق عدة سيناريوهات للسيطرة على العالم، وأحسن طريقة في ذلك هو السيطرة على منطقة عربية مسلمة إستراتيجية من الناحية الجغرافية ولها مواد طبيعية مثل النفط.
الميغا إمبريالية
" في السابق كانت هناك منافسة في الميدان الإمبريالي بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وإسبانيا، لكن الآن هناك استعمار واحد مسير من مكان بعيد والبقية تسمع وتطيع " |
ويذهب عالم المستقبليات المنجرة إلى القول إن ما سيأتي إنما هو بعد استعماري جديد إذ "أصبح للميغا إمبريالية أسلوب جديد ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار. فهي لا تقبل إمبريالية أخرى منافسة على عكس ما كان في السابق، حيث كانت الإمبريالية الفرنسية مثلا تقبل بوجود إمبرياليات أخرى ألمانية وبريطانية وإسبانية أو غيرها".
فتحولت بذلك الولايات الأميركية منذ 11 سبتمبر/ أيلول إلى قوة هيمنة عالمية غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية وفي التطور الإنساني، لأن أميركا دولة لها قوة الهدم والتحطيم تقتل 50 أو 60 مرة مجموع السكان فوق الكرة الأرضية، وليس هناك أحد يمكنه التحكم فيها بما في ذلك الدول الأوروبية.
ففي السابق كانت هناك منافسة في الميدان الإمبريالي بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وإسبانيا التي كانت تتفاوض وتتقاسم العالم فيما بينهما، لكن الآن هناك استعمار واحد مسير من مكان بعيد والبقية تسمع وتطيع.
وقد ظهرت الميغا إمبريالية -أو إمبريالية مضاعفة ألف مرة- نتيجة تطور العلوم والتكنولوجيا الذي أتاحت وسائله الجديدة خصوصا الأقمار الصناعية وإنتاج البحث العلمي العسكري بالأساس الفرصة للسيطرة على العالم بشكل مضاعف آلاف المرات وحيث لم تبق نقطة فوق هذه الأرض لم تدخل في نفوذ هذه الإمبريالية.
من جهة أخرى فإن الميغا إمبريالية هي إهانة للشعوب العربية والإسلامية، فحينما ضربت متاحف ومكتبات بغداد كان فعلا مقصودا منه إهانة شعب وقتل ذاكرته. و"أخطر ما تصطدم به البشرية من جراء مذهب "بوش" هو سيطرة قيم تعتمد فقط على القوة العسكرية ولا تدع مجالا للتنوع" الثقافي والحضاري، وستكون النتيجة الفورية لهذا المذهب هي التدمير غير القابل للوصف والتقدير لما بقي من العراق وسيكون مئات الآلاف من الأبرياء ضحايا هجوم همجي سيستخدم ويجرب فيه أحدث الأسلحة المتطورة.
ويرى المنجرة أن الحرب على العراق ستستمر على الأقل 15 أو 20 سنة أخرى، وأنها جزء من "حرب صليبية ثامنة" ضد الإسلام تقودها الإمبريالية الجديدة أسفرت عن 10 ملايين قتيل في العالم العربي والإسلامي خلال عشر سنوات فقط، سبقتها ثماني حروب خلفت أقل من 100 ألف قتيل!
ويرجع السياسة الأميركية الجديدة هذه إلى عنصرين، الأول القوة التي تتمتع بها أميركا رغم أن شوكتها قد انهدت يوم 11 سبتمبر/ أيلول، والثاني هو سطوتها السيكولوجية النافذة على الحكومات العربية والإسلامية والغربية كذلك.
الخوفقراطية والإهانةوقد برزت في عصر ما بعد الاستعمار الجديد الهيمنة الأميركية بشكل أكثر جلاء عند مساءلة نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة والركود الاقتصادي وأحداث 11 سبتمبر/ أيلول وانطلاق سلسلة من الإجراءات العسكرية والسياسية والقانونية ذات بعد عالمي لمحاربة ما يسمى الإرهاب.
ووجهت الميغا إمبرالية "سلاحها للدمار الشامل" ضد الكرامة، إذ استغلت أميركا بعض الظروف ودخلت نفسيا في مرحلة خطيرة هي مرحلة الخوفقراطية. ودفعت الرؤية الغربية للعراق المبنية على الخوف من المد الحضاري الذي كان سيشكله هذا البلد كأساس حضاري للأمة العربية خاصة أنه يمتلك ثروات طبيعية هائلة، الغرب إلى ضرب العراق والقضاء على كل مقومات قوته ليكون عبرة للآخرين وتخويفا لهم حتى يبتعدوا عن كل ما يزعج الغرب.
بوادر هذا الخوف ظهرت مع أول إحصاء في العالم عن الإسلام قام به الفاتيكان سنة 1976 وأظهر أنه لأول مرة في تاريخ البشرية يفوق عدد المسلمين عدد الكاثوليك، لذلك بدأ الخوف من الإسلام وبدأت حرب إعلامية نفسية تمت من خلال توصيف مصطلح "إسلامي".
وأصبح هذا الخوف أحد أكبر حالات الهوس الذي يعيشه الغرب بسبب الجهل وغياب التواصل الثقافي والعجرفة التي تقود إلى إذلال الآخر وتغذي حربا حضارية منذ العام 1991. كما أن الاهتمام الاستخباراتي بالمعلومة كان له الأثر الواضح على الذات في تفكير الغرب -أميركا- وأدخل الخوف عليه في كل دقيقة.
" يعيش العالم العربي الخوفقراطية، إضافة إلى التفقيرقراطية الذي أصبح نظاما للتدبير والحكم أيضا وأولوية الجهلقراطية والكذبوقراطية والشيخوخقراطية " |
وقد انتقل الخوف بعد ذلك إلى العرب واتخذه القادة وسيلة للحكم، وأصبح العالم العربي يعيش "الذلقراطية" في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية والانهيار الشامل لنماذج التنمية التي فرضتها المؤسسات الدولية وفي ظل الاستلاب الثقافي الذي يعد "الذل الأكثر خطرا على المستوى البعيد لأن الأمر يتعلق بعدوان على أنطمة القيم". كما أن العالم العربي يعيش "الخوفقراطية" التي تتجلى في الخوف من التغيير وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والنقابات والشباب والخوف من القوى الكبرى، إضافة إلى "التفقيرقراطية" الذي أصبح نظاما للتدبير والحكم أيضا، وأولوية "الجهلقراطية والكذبوقراطية والشيخوخقراطية".
هذه الوضعية سيطرت على الحكومات العربية والإسلامية وحالت بينها وبين تشكيل رؤية بعيدة المدى للانعتاق من هذه الوضعية التي يختزلها تاريخ العالم الثالث في السنوات الخمسين الأخيرة الذي هو حلقة متسلسلة لا متناهية من المهانات والمذلة.
التغيير والإصلاحتعرض العالم العربي الإسلامي لأكبر عدد من الإهانات الخارجية والداخلية، التي قضت على ما يناهز 10 ملايين شخص في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، هذه الإهانات التي طالت المعرفة والتراث الثقافي كما حصل في العراق مؤخرا، ستؤدي -في رأي المنجرة أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية- إلى زلازل متتالية ستهز العالم ككل وستدفعه إلى التغيير.
ويرى أن الوجود العسكري الأميركي في العراق سيسير على خطى نموذج احتلال اليابان عام 1945، وسيتم التحضير للهجوم على إيران وإعادة رسم خريطة العالم حيث ستصبح إسرائيل "شرطي" المنطقة العربية ومعنية بأنشطة بترولية متعددة مثل بناء وتدبير خط الأنابيب الجديد الموصل- غزة.
وقد تكون المملكة العربية السعودية أكبر خاسر في عملية التغيير بالمنطقة، كما أنه سيتم استبدال بعض الأنظمة الموالية لأميركا.
إلا أن الولايات المتحدة الأميركية مثل قوى غربية أخرى تخاف من عمليات الديمقراطية في العالم العربي، لأنها ستحدث حتما تغييرا جذريا في السياسات الخارجية للأنظمة الحالية. كما أنه لن يبقى كثير من الحكام العرب في السلطة أكثر من بضعة أشهر دون دعم أميركي أو غربي.
ويتوقع المنجرة أن هذه الإهانة لا يمكن أن يقبلها شعب لفترة طويلة لهذا ستندلع "انتفاضات" جديدة في العالم العربي الإسلامي، على شاكلة انتفاضة الأقصى، قد تكون عنيفة وستخلف ثمنا اجتماعيا وإنسانيا كبيرا.
كما أن النظام الدولي الذي تعرض لذل وإهانات أكثر مما تعرض له العالم العربي الإسلامي خلال السنوات الأخيرة عبر حرب صليبية تاسعة تستهدف الإسلام مباشرة وليس العراق أو رئيسه المخلوع، أصبح محدودا بعد العدوان على أفغانستان والعراق.
وبرهن هذا العدوان على أن الأمم المتحدة لم تعد لها مصداقية لدى الرأي العام الدولي وكذلك جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومؤتمر عدم الانحياز وبالتالي فإنها ستفقد ما بقي لها من مصداقية إن كانت لها أصلا.
والدرس الجديد الذي ستستخلصه الشعوب العربية الإسلامية من احتلال العراق إضافة إلى احتلال فلسطين هو أن التحرر لا يأتي أبدا من الخارج، والشيء الأكيد الآن أن العالم، ومهما تكن الطريقة التي سيعاد بها رسم خريطته، لن يبقى على ما هو عليه الآن، والولايات المتحدة الأميركية ستدخل فترة اندحار قد تدوم بين 15 و20 سنة على الأكثر.
ففي ديسمبر/ كانون الأول 1999 قال بيل كيلنتون الرئيس الأميركي السابق في برنامج (Sixty minutes) على قناة CBS "أنا أعلم أننا بعد عشر سنوات أو أكثر لن نبقى القوة الاقتصادية الأولى في العالم، ستأتي الصين ثم الهند.. إلخ". وبالتالي يرى المنجرة أن مفهوم الميغا إمبريالية لن يدوم مدة طويلة وبعد 15 أو 20 سنة على الأكثر سنرى إمبراطورية أخرى.
إلا أن الخاسر الأكبر -كما يذهب إلى ذلك الكاتب المتأثر بمدرسة غاندي- سيكون هو الحضارة الإنسانية التي عجزت رغم تقدمها في كل مجالات العلوم والمعرفة عن تسخير هذه التطورات للدفاع عن الكرامة وخدمة السلم.
" لن يحدث التغيير دون أن ينطلق من أنفسنا لأن درجة الإهانة تساير مباشرة تساهل حكامها ودرجة فتور وخنوع جماهيرهم " |
وفي العالم العربي والإسلامي لن يكون هناك تحرك نحو التغيير إلا قبل جيلين أي 50 أو 60 سنة، غير أن الزلزال مقبل ويندرج في المدى الطويل، وعلماء الزلازل يتوقعون بقعا في العالم ستقع فيها زلازل ولكن يبقى عدم التدقيق في تاريخ وقوعها، وكذلك الزلازل الاجتماعية والتغيير الذي سيقع في العالم ككل. إن عدم الاستقرار الذي يعيشه العالم اليوم هو في حد ذاته انتفاضة، كما أن الزلزال الحقيقي الذي بزغ مع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول ليس في برجي نيويورك، بل في التركيب العقلاني وفي التفكير والتطوير الحضاري الذي سيأتي، ومن هنا -يقول المنجرة- يأتي التسلح بعقلانية التشاؤم وتفاؤل الإرادة في تحقيق التغيير.
لكنه يرى أن التغيير في العالم العربي والإسلامي والذي سيكون المستقبل فيه للإسلام لن يتحقق إلا عبر ثلاثة مشاهد، الأول هو بقاء الأشياء على حالها، وهذا غير ممكن لأن من غير الممكن أن ننزل إلى أسفل مما نحن فيه.
والثاني هو الإصلاح الذي انتهت فترته وكان يمكن تحقيقه في السنوات الخمس أو العشر الماضية، وأي إصلاح الآن سيكون جزئيا ولا يمكن أن يؤثر على الكل المأزوم.
أما المشهد الثالث فهو التغيير الشامل الذي يمكن أن يتحقق عبر احتمالين، إما وعي حقيقي ومسؤولية كاملة من أصحاب القرار تجاه مستقبل بلادهم والإيمان بأن الإصلاح الجزئي غير كاف، وإما اللجوء إلى ما يسمى القطيعة، على أساس أن الأولوية تكون للتحرك الثقافي، إذ لا يمكن لأحد خارج البلاد العربية والإسلامية أن يحل مشاكلها بل يمكن الاعتماد على خبرته لا على اختياراته، وعلى اعتباره وسيلة وآلة وليس باتباعه في المقاصد والغايات.
بيد أن المنجرة يقرر أن التغيير لن يحدث دون أن ينطلق من أنفسنا، لأن درجة الإهانة "تساير مباشرة تساهل حكامها ودرجة فتور وخنوع جماهيرهم، ففي مجال الذل يكمن جانب كبير من قوة المُذل في كونه لا يلاقي العقاب وأيضا في درجة استسلام وضعف الخاضعين للذل".
منقول من الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق