كلما حضرت مجلسا خطابيا أو اجتماعا ما في إدارة من الإدارات إلا وتذكرت حكاية الثرثار ومحب الاختصار في سلسلة اقرأ للمرحوم الأستاذ أحمد بوكماخ والتي أفتتح بصددها في هذا المقام هذا الاعتراف المتواضع بحق رجل عصامي ليس ككل الرجال، وأقولها بكل صدق "الرحمة لمن علمني".، فلقد كانت نصوصها بحق تزخر بشتى الدروس والعبر مثل "الأمير السعيد"،و"الله يرانا"،و"بائعة الكبريت"، أيام كانت محفظاتنا القديمة المهترئة -ونحن تلامذة في الابتدائي- تحوي فقط كتاب اقرأ وأربعة دفاتر فئة 24 ورقة ولوحة صغيرة وريشتين عربية وفرنسية وقلم رصاص وممحاة ومسطرة، ولم تكن تستر أجسامنا الصغيرة سوى ملابس متواضعة مستعملة لا يرقى ثمنها بالكامل إلى 10 دراهم، وعلى الرغم من ضآلة العدة والعتاد كان المستوى التعليمي آنذاك من أرفع ما عرفه المغرب بعد الاستقلال نظرا للمستوى العالي والرفيع والخلق السوي القويم اللذان كانا يميزان الأسرة التعليمية آنذاك سواء منهم الأجانب أو المغاربة على حد سواء.
وعودة إلى موضوع الثرثار ومحب الاختصار، فلطالما صادفت في حياتي اليومية نماذج من البشر ينقصها الكثير ثم الكثير من التكوين في أدب الحديث والاستماع، فعلى سبيل المثال قد يحدثك شخص في موضوع ما وخلال حديثه يتعبك ويقصفك مرات متتالية دون أن ةيستحيي أو يرمش له جفن بعبارة "واش فهمتي"، وكأنه هو الوحيد الذي يفهم دون
خلق الله، وقد تصادف ثرثارا ثقيلا سخيفا ما يقوله الناس في جملة من فعل وفاعل ومفعول به يسرده لك مقالا مطولا كأنه إحدى المعلقات العشر، يتخلله تكرار ودوران وركاكة وتفاهة إلى درجة أن يسبب لك الحنق والضيق والسخط والألم، وعند ذلك إن لم تقم عن هذا الأبله وتذهب لحال سبيلك قتلك، ولكي تكتمل الصورة لا بد من إضافة إلى هذين النموذجين الفريدين شخصية صاحب اللسان الطويل، الذي إن تكلم واستمعت لحديثه لخيل إليك أنه الإسكندر المقدوني صاحب الفتوحات الكبرى الذي صال وجال في كل حدب وصوب ومكان، ولا يغلبه أي من النساء أو الرجال، لكنه في الحقيقة مسكين ضعيف مغفل، لا يدري ما يقول وماذا يفعل إن ألم به أتفه خطب أو جلل.
قد يقول قائل إن الأدب والأخلاق الطيبة لا تنفع رجلا يعيش وسط أناس أكثرهم من ذوي الأخلاق الرديئة.. لأنها تجعل الإنسان كالعاقل وسط المجانين، يبدو كأنه هو المجنون والباقي عقلاء، أو كما يقول المثل: "إذا لم تكن ذئبا على الأرض أجردا كثير الأذى بالت عليك الثعالب"، لكن الحقيقة الساطعة لا يمكن حجبها بالغربال وأن السنين لا تجعل أبدا من الغبن حقا وإنما تزيد الإساءة استفحالا.
والآن لنعد إلى خرفاننا كما يقول الفرنسيس، بعد استئناسنا ببعض من النماذج البشرية الفريدة، ولنقل بصراحة وبكل وضوح لهؤلاء المشغولين والمفتونين بدواتهم افتحوا أعينكم جيدا وافتحوا معها آذانكم واسمعوا وعوا بأنه من الواجب عليكم أن تتعلموا التواضع كما يتعلم الأطفال الصغار المشي، لأنه عندما تتسع الرؤية، تضيق العبارة ويصبح الصمت والتأمل هو القاعدة، والمتأمل في أحوال الناس يجد أنهم نوعان، منهم صامتون ينتجون ولا يرتفع لهم صوت في المسامع، ومنهم صائتون يملأون الدنيا ضجيجا وصياحا دون أن يضيفوا أي شيء يذكر إلى حياة الناس كي يجعلوها أكثر بهجة وإشراقا، فهؤلاء الصائتون مثلهم كمثل شرذمة من الصراصير تملأ الحقول ضجيجا بصوتها المزعج حتى ليخيل للمرء أنها الوحيدة والفريدة في هذا العالم، بينما قطعان الماشية تمضغ طعامها في صمت وتعطي من لبنها وفروها ولحمها للإنسان بدون مقابل في صمت، ولكن في زحمة الأحداث والعجلة في استصدار الأحكام الجاهزة غالبا ما تضيع وتهضم حقوق العاملين الصامتين، ويخرج الصائتون ببطون منتفخة غصبا ونهبا لحقوق الغير وذلك على الرغم من أن العدل هو دائما وأبدا أقل كلفة من الظلم، وإن الإنسان كان ظلوما.
وفي رواية الملك لير لشكسبير لما أراد الرجل أن يقسم ملكه بين بناته الثلاث، طلب منهن أن يعبرن عن مدى حبهن له. فشنفت البنتان الكبرى والوسطى مسامعه بعبارات الحب والوفاء والطاعة بما لم يسمع به من قبل، فانتفخ الملك زهوا وكبرياء وخلع لكل منهما ثلث مملكته، فلما جاء دور البنت الصغرى قالت بصدق واختصار: "أحبك كما تحب كل فتاة مخلصة أباها"، فغضب الملك وقال لها: "إذا كان هذا هو مقدار حبك لأبيك فليس لك عندي شيء". فقسم الثلث الباقي من مملكته نصفين على ابنتيه الكبرى والوسطى. وتدور الأيام فتتنكر هاتان الأخيرتان لوالدهما، وتلفظانه شريدا مهانا، ولم تخلصه من محنته إلا بنته الصغرى التي ندرت حياتها للفضيلة الصامتة.
إن الفجوة الواسعة بين القول والعمل لدى هذه النماذج البشرية الشاذة والغير سوية والتي مع الأسف تشغل مناصب مهمة في العديد من مراكز المسؤولية والقرار، وتبني عليها متاعها الدنيوي القليل ممزوجا بالكثير من الظلم واغتصاب حقوق المستضعفين واستغلال النفوذ أيما استغلال، غافلة على أن الجاه يتغير بدوران الأرض بامتداد الظل ثم انحساره، وأنه مهما ضاق درب الفضيلة واتسع طريق الرذيلة، ستبقى الفضيلة هي الطريق الأوحد إلى المجد، وأن كل شيء إلى زوال إلا وجه الله ذو الجلال والإكرام.... والرحمة لمن علمني أستاذ المدرسة الوطنية والإسلامية الجليل سي أحمد بوكماخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق