الاثنين، مايو 14

دولة العصافير ! ..




دولة عجيبة ... تبسط أجنحنها الصغيرة علي الدنيا ... و تنشر أفرادها في كل البقاع , لا تخفي من أرض , ولا تخلو منها سماء ... كلها في عين الوقت إذا رأت عين الشمس زقزقت , أو إذا خرج الصبح من جوف الليل خرجت هى من الأعشاش ... من هو المنادى الخفي الذي يوقظها جميعا في لحظة واحدة ! ... فتهب إلي العمل وهى تغنى ... فلا كسلان متخلف ... و لا متثائب مترف ...
قال عصفور صغير لأبيه ذات يوم :
_ ألسنا نحن يا أبت خير المخلوقات ؟ ...
فهز العصفور الكبير رأسه وقال :
_

هذا شرف لا ينبغي لنا أن ندعيه , هنالك من يزعم لنفسه هذا الحق ...
_ من هو يا أبت ؟ ...
_ الإنسان ...
_ الإنسان ؟ ... ذلك الذي يرشق أعشاشنا بالحجارة ؟ ... أهو خيرمنا ؟... أهو أسعد منا ؟ ...
_ ربما كان خير منا ... ولكنه ليس أسعد منا ...
_ لماذا يا أبت؟ ...
_ لأن في جوفه شوكة تخزه دائما وتعذبه ...
_ يا له من مسكين !... و من الذي وضع فيه هذه الشوكة ؟ ...
_ هو نفسه بيده ... هذه الشوكة تسمى الجشع ...
_ الجشع ؟ ... ما هو الجشع ؟ ...
_ هذا شيء لا تعرفه أنت أيها الصغير ... بل قد لا يعرفه أحد في دولة العصافير ... و لكنى أنا عرفته لطول ملاحظتى للإنسان , و لوقوعي في قبضته أكثر من مرة .. إنه الشيء الذي يجعله لا يشبع ولا يطمئن ولا يرتاح ... نحن نعرف الشبع ... وهو لا يعرف إلا الجوع ... نحن نعمل لنرزق , و هو يريد أن يرزق ولا يعمل , نحن لا نعرف استغلال عصفور لعصفور ... فعصافير الأرض تخرج كلها للعيش فرحة مغردة متواضعة متأخية , وهو لا يحلم إلا باستغلال أخيه الإنسان ليعمل بدلا منه منذ الصباح الباكر , و يتمدد هو في فراشه يتمطى و يتراخى و يتثائب حتى الضحى ... فلا يري الشمس الذهبية , ولا الفجر الفضي , ولا يستنشق الهواء الندى ... إنما شمسه ذهب مرصود في المصارف , وفجره فضة تزين أدوات حجرته و هواؤه طمع يملأ صدره ...
وسكت العصفور المجرب لحظة , ونظر إلي ابنه الناشيء فوجده يصغى إلي هذا الكلام إصغاءه إلي أسطورة خيالية ... إنه يدرك ولا يصدق , ويعى ولا يعتقد ... تلك أشياء لم يرها بعينه , ولم يصادفها بعد في حداثته الصغيرة ... ولم يمارسها حتى الأن في حياته القصيرة ...
و رأي أبوه منه ذلك فقال :
_ نعم ... لابد أن تشاهد بعينيك ... إذا رأيت يا بنى إنسانا مقبلا فأخبرنى وأنا أريك منه ما يقنعك ...
و لم يمض قليل حتى أقبل رجل , فما كاد العصفور الصغير يراه حتى صاح بأبيه ينبهه ... فقال الأب لابنه :
_ سأوقع نفسي في يده , و عليك يا بنى أن تراقب ما سيحدث ...
_ تقع في يده ييا أبي ؟ ... وإذا حدث لك ضرر ؟ ...
_ لا تخف ... إنى أعرف طبائع الإنسان , و أعرف كيف أسخر منه و أفلت من يده ...
و غادر العصفور المحنك صغيره , وهبط من فوره حتى وقع علي مقربة من الرجل , فصاده الرجل فرحا , و ضم عليه أصابعه حرصا منه علي الغنيمة ... فقال له العصفور وهو في قبضته :
_ ماذا تريد أن تصنع بي ؟ ...
فقال الرجل منهوما :
_ أذبحك و أكلك ...
فقال العصفور الماكر :
_ إنى لا أشبعك من جوع , ولكننى أستطيع أن أعطيك ما هو أنفع من أكلي ...
_ ماذا تعطنى ؟ ...
_ ثلاث حكم , إذا تعلمتها نلت بها خيرا كثيرا ...
_ اذكرها لي ...
_ لي شروط : الحكمة الأولي أعلمك إياها و أنا في يدك , والحكمة الثانية أعلمك إياها إذا أطلقتنى , و الحكمة الثالثة أعلمك إياها إذا صرت علي الشجرة ...
_ قبلت ... هات الأولي ...
_ لا تتحسر علي ما فاتك ...
_ و الثانية؟ ...
_ أطلقنى أولا حسب الشرط ...
فأطلق الرجل من يده العصفور ,, ووقف العصفور علي ربوة بقربه و قال :
_ الحكمة الثانية : لا تصدق ما لا يمكن أن يكون ...
ثم طار إلي الشجرة وهو يصيح :
_ أيها الإنسان المغفل ... لو كنت ذبحتنى لأخرجت من حوصلتى درتين زنة كل درة عشرون مثقالا ...
فعض الرجل علي شفتيه عضة أدمتهما , و تحسر حسرة شديدة , و نظر إلي العصقور و قد صار علي الشجرة , و تذكر شروطه , فقال له بصوت ينزف منه العذاب و التلهف :
_ هات الحكمة الثالثة ...
فقال العصفور باسما ساخرا :
_ أيها الإنسان الطماع ! ... لقد أعماك جشعك فنسيت الاثنتين , فكيف أخبرك بالثالثة ؟ .. ألم أقل لك لا تتحسر علي ما فاتك , ولا تصدق ما لا يمكن أن يكون ... إن لحمى و عظمى و ريشي لا يزن عشرين مثقالا ... فكيف تكون في حوصلتى درتان وزن كل واحدة عشرون مثقالا ؟!...
وكان منظر الرجل مضحكا ... لقد استطاع عصفور أن يلعب بإنسان ... و التفت الأب إلي ابنه العصفور الصغير قائلا :
_ والأن رأيت بعينيك ؟!...
فقال العصفور الصغير وهو يراقب حركات الرجل ويلاحظ ما به :
_ نعم ... لست أدري هل أضحك منه أو أبكى عليه ! ...



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق